د. علي الحمادي
رئيس مركز التفكير الإبداعي
لما جاء عمرو بن العاص يعرض إسلامه على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) هشَّ له النبي، وبسط يمينه المباركة ليبايعه على الإسلام، ولكن عمرًا قبض يده، فقال له النبي (صلى الله عليه وسلم): "مالك عمرو؟" قال: أردت أن أشترط. قال (صلى الله عليه وسلم): "تشترط بماذا؟" قال عمرو: أشترط أن يُغفر لي. فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): "يا عمرو أما علمت أن الإسلام يهدم ما قبله، وأن الهجرة تهدم ما قبلها، وأن الحج يهدم ما قبله" (رواه مسلم).
وهذا ما عناه النبي (صلى الله عليه وسلم) بقوله: "من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه" (رواه البخاري ومسلم)؛ فالحج ميلاد جديد للإنسان، فكما يأتي المولود إلى الدنيا وليس في صحيفته ذنب فعله، أو خطيئة اقترفها، فكذلك يعود الحاج من حجه وصحيفته بيضاء نقية كأنما خرج إلى الدنيا من بطن أمه.
إن بيت الله الحرام بالنسبة للعالم كله بمثابة القلب للجسم كله، فكما يقوم القلب بتجديد الدماء في جسم الإنسان، فإن بيت الله الحرام يقوم بتطهير الإنسان ودفعه في أنحاء العالم ليجدد مسيرة الحياة، ويضخ فيها علمًا ونورًا وهداية.
يقول العلامة المودودي (رحمه الله): "وطالما يدق القلب فإن الإنسان لا يمكن أن يموت، حتى لو لم يقو على الحراك، نتيجة لما ابتُلي به من أمراض .. وهكذا تمامًا، فإن هذا القلب – قلب العالم الإسلامي – يسحب الدم كل سنة من الشرايين الممتدة المتباعدة على وجه الأرض، ثم يقوم بضخ هذا الدم بعد ذلك في كل شريان من هذه الشرايين، وطالما ينبض هذا القلب، وطالما تستمر عملية سحب وضخ الدم، فإنه يستحيل تمامًا أن تنتهي حياة هذا الجسم، مهما ضعف، وساءت حالته نتيجة لما يصيبه من أمراض". (المودودي: خطب الجمعة).
هكذا يتجدد المسلم عقليًا وذهنيًا وفكريًا ونفسيًا وشعوريًا بعد عودته من الحج، كما تتجدد الدماء في عروقه بعد عودتها من القلب مرة أخرى، فإذا كان الحاج يرجع من حجه على درجة عالية من السمو الروحاني، والارتقاء الإيماني، فليحافظ – إذًا - على جلال هذه الأيام وروعتها بقية عمره: "وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِى نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَـاثًا " (النحل: 92)؛ فليحذر من هدم ما بناه، أو تبديد ما جمعه، أو نقض ما أحكمه.
فأي حجٍّ لمن عاد بعد حجه مضيعًا للصلاة، مانعًا للزكاة، آكلًا للربا، متعاطيًا للمخدرات والمسكرات ، قاطعًا للأرحام، والغًا في الموبقات والآثام؟ فيا من امتنعتَ عن محظورات الإحرامِ أثناء حج بيت الله الحرام، إن هناكَ محظوراتٌ على الدوام، وطولَ الدهر والأعوام، فاحذر إتيانها وقربانها: "تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّـالِمُونَ" (البقرة: 229).
إن الحج يجعلك تشعر بالطهارة القلبية، فجاهد نفسك حتى لا تعود إلى الذنوب مرة أخرى، وحتى لا تلطخ هذه الصفحة البيضاء التي أكرمك الله به:
رأيت الذنوب تميت القلوب وقد يورث الذلَّ إدمانها
وترك الذنوب حياة القلوب وخير لنفسك عصيانهُا
أما بقية المسلمين الذين عاشوا هذه الأيام المباركة في طاعة وإنابة فهم أيضًا يسعون لأن يكونوا نموذجًا من الطهر والعفاف، والصدق مع الله في كل حين، فإذا كان المسلم في هذه الأيام المباركات عاش ذاكرًا صائمًا مضحيًا، فليعلم أن وظيفة مثل هذه العبادات تهذيب سلوكه، وتربيته للاستمرار على الطاعة بعدها، إذ أن عبادة الله عز وجل لا تُوقْت بزمان ولا تُحد بمكان، بل كل وقت الإنسان ينبغي أن يكون مصروفًا في طاعة الله ومرضاته: "قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ" (الأنعام: 162 - 163).
فاجعلوا الحياة كلَّها لله، واقتفوا أثر الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم) الذي قال "خذوا عني مناسككم" واعلموا أن الإسلام منهج حياة متكامل، فعيشوا على مستوى الفريضة التي أديتم، واحذروا أن تكون أعمالكم مظاهر من دون جوهر، وحركات من دون وقوف وتدبر.
يقول عمر أبو ريشة بعد قضاء حجه مصوِّرًا مَن يعيش دينه بظواهره لا بحِكَمه:
أسألُ النفس خاشـعًا: أتـرى طهرت بردي من لوثة الأدران؟
كم صلاةٍ صـليتُ لم يتجـاوز قدس آياتهـا حـدودَ لسـاني
كم صـيام عانيتُ جوعي فيـه ونسـيت الجياع من إخـواني
كم رجمت الشيطان والقلب مني مرهَـقٌ في حبائل الشـيطان
ربِّ، عفـوًا، إن عشـت ديني ألفاظًا عجافًا، ولم أعشه معاني