شهدت العلاقات المصرية التركية تحولات كبيرة في الأعوام الأخيرة، حيث انتقلت من حالة من التوتر الشديد والقطيعة الدبلوماسية بعد عام 2013 إلى محاولات متواصلة لإعادة الدفء للعلاقات منذ عام 2021. تأتي هذه التطورات وسط تحولات إقليمية ودولية دفعت البلدين إلى إعادة النظر في استراتيجياتهما وسياستهما الخارجية. لكن السؤال الأهم يبقى: هل هذه المحاولات تمثل عودة حقيقية للعلاقات بين البلدين إلى الواجهة، أم أنها مجرد مرحلة مؤقتة تخضع للحسابات السياسية الراهنة؟
خلفية التوترات
توترت العلاقات بين تركيا ومصر بشكل ملحوظ بعد عزل الرئيس الشرعى للبلاد الدكتور محمد مرسي في عام 2013والذي اعتبرته تركيا انقلابًا ضد أول رئيس منتخب في مصر. الرئيس التركي رجب طيب أردوغان تبنى خطابًا عدائيًا ضد السيسي، وصفه بـ"القاتل" بسبب أحداث مجزرتي رابعة العدوية والنهضة. هذا التصعيد في الخطاب انعكس على العلاقات الثنائية وأدى إلى قطيعة دبلوماسية. على مدى السنوات التالية، ظل خطاب أردوغان شديد الانتقاد للسيسي، ولم يكن هناك أفق واضح لتحسين العلاقات بين البلدين.
ورغم تحول الخطاب التركي تدريجياً نحو موقف أكثر إيجابية تجاه مصر كدولة وشعب، إلا أن هذا التحول لم يشمل السيسي نفسه، مما زاد من تعقيد العلاقة بين البلدين. من جانبها، وضعت مصر شروطًا محددة لتحسين العلاقات مع أنقرة، مع الحفاظ على احتقان في الخلفية نتيجة الخطاب التركي الموجه ضد السيسي.
خلال هذه الفترة، تصاعدت حدة التوتر في قضايا إقليمية أخرى، من أبرزها الملف الليبي. فقد دعمت تركيا حكومة الوفاق الوطني في ليبيا، في حين دعمت مصر الجيش الوطني الليبي بقيادة خليفة حفتر، مما جعل الصراع الليبي ساحة مواجهة غير مباشرة بين القاهرة وأنقرة.
تحول في العلاقات
لكن منذ عام 2021، بدأت تركيا تظهر مرونة أكبر في سياستها الخارجية، مدفوعة بتغيرات إقليمية ودولية، بما في ذلك التحديات الاقتصادية والدبلوماسية التي تواجهها. وفي هذا السياق، ظهرت محاولات تركية لتحسين العلاقات مع مصر، سواء عبر التصريحات الإعلامية أو من خلال خطوات دبلوماسية. فقد شهدت الأشهر الماضية عدة لقاءات على مستوى المسؤولين الدبلوماسيين بين البلدين، تركزت على بحث سبل إعادة تطبيع العلاقات وفتح قنوات اتصال دائمة.
من بين أبرز هذه التطورات، كان اللقاء الذي جمع وزير الخارجية المصري سامح شكري ونظيره التركي مولود جاويش أوغلو، حيث أكدت التصريحات المشتركة بينهما على وجود رغبة حقيقية لدى الطرفين في تحسين العلاقات وتجاوز الخلافات السابقة. هذه اللقاءات تأتي في إطار محاولات تركية لتحسين علاقاتها مع دول الخليج ومصر، في وقت تعاني فيه تركيا من ضغوط اقتصادية ودبلوماسية على مستوى أوسع.
العوامل المؤثرة في تطبيع العلاقات
تتعدد العوامل التي تدفع كلًا من مصر وتركيا نحو محاولة تحسين العلاقات، وعلى رأسها المصالح الاقتصادية والجيوسياسية. ففي الوقت الذي يعاني فيه الاقتصاد التركي من ضغوط كبيرة، ترى أنقرة في التعاون مع مصر فرصة لتعزيز علاقاتها التجارية والاستثمارية، خاصة في مجالات مثل الطاقة والنقل البحري.
أما على الصعيد الجيوسياسي، فإن التحولات الإقليمية، مثل تقارب دول الخليج مع إسرائيل والتحديات التي تواجهها تركيا في الساحة الليبية، تدفع أنقرة لإعادة ترتيب تحالفاتها. مصر من جانبها ترى في تحسين العلاقات مع تركيا فرصة لتعزيز دورها الإقليمي واستثمار التقارب في تهدئة التوترات الإقليمية، خاصة في ملفي ليبيا وشرق المتوسط.
رغم هذه الخطوات الإيجابية، تبقى هناك ملفات خلافية تحتاج إلى تسويات معقدة قبل أن تشهد العلاقات تحسنًا كاملًا. من أبرز هذه الملفات الدعم التركي لجماعة الإخوان المسلمين، والتي تعتبرها مصر جماعة إرهابية. ورغم أن أنقرة قد اتخذت بعض الخطوات لتهدئة القاهرة، مثل تقليص نشاط قنوات الإخوان الإعلامية التي تبث من تركيا، إلا أن هذا الملف ما زال يشكل حجر عثرة أمام تطبيع كامل للعلاقات.
كما أن الملف الليبي لا يزال يشكل نقطة خلاف رئيسية بين الجانبين. ورغم الهدوء النسبي الذي يشهده الصراع في ليبيا مؤخرًا، إلا أن المواقف المصرية والتركية من الأوضاع هناك لم تتقارب بشكل كامل. ومع ذلك، فإن الطرفين يعبران عن استعدادهما للحوار والتعاون في هذا الملف ضمن إطار أوسع للحلول السياسية.
مستقبل العلاقات: عودة دائمة أم مرحلة مؤقتة؟
على الرغم من المؤشرات الإيجابية التي تشهدها العلاقات المصرية التركية، إلا أن مستقبل هذه العلاقات لا يزال يعتمد على تطورات عدة عوامل داخلية وإقليمية. في حين يمكن اعتبار التحسن الحالي خطوة إلى الأمام، إلا أن كثيرًا من المحللين يعتبرون أن هذا التحسن قد يكون تكتيكيًا ومؤقتًا، إذ يعتمد بشكل كبير على التغيرات السياسية والاقتصادية التي تواجهها كل من مصر وتركيا.
قد يكون الهدف الأساسي من هذه التحركات هو تأمين المصالح الوطنية في ظل أوضاع إقليمية معقدة، لكن مدى استدامة هذا التقارب يعتمد على كيفية معالجة الملفات الخلافية الأساسية بين البلدين. فإذا تمكن الطرفان من تجاوز هذه العقبات وتحقيق تفاهمات حقيقية حول القضايا الرئيسية، فقد يشهد العالم عودة دائمة للعلاقات المصرية التركية إلى الواجهة. أما إذا فشلوا في ذلك، فقد يبقى هذا التقارب مجرد مرحلة مؤقتة تتأثر بالحسابات السياسية المتغيرة.
خاتما ؛ إعادة تطبيع العلاقات بين مصر وتركيا تعتبر من الأحداث الإقليمية البارزة في الوقت الراهن، وهي تعكس رغبة الجانبين في استغلال الفرص المتاحة لتحسين موقفهما الإقليمي والاقتصادي. لكن مع وجود قضايا عالقة وتاريخ من الخلافات، يبقى السؤال الأهم هو ما إذا كان هذا التقارب يمثل عودة حقيقية للعلاقات بين البلدين، أم أنه مجرد مرحلة تفرضها الظروف الراهنة.