أهل غزّة موعودون بـ42 يوماً بلا تمويتٍ وتجويعٍ وتهديم، ولذلك انصرفوا منذ ظهيرة أمس إلى الفرح، إلى انتشاءٍ بنجاتهم من مغادرة الحياة إلى مقابر بلا أسماء، إلى أكفانٍ بيض بأرقام. موعودون في الأسابيع الستة المقبلة بوقودٍ وطعامٍ ودواءٍ ومياه، بما يلزم للبشر لكي يظلّوا أحياء. أن نراهم على الشاشات أمس مبتهجين بما هم موعودون به ينثُر في جوانحنا فرحاً بهم، ويجعلنا نكتفي بأن نمارس هذا الفرح ولا شيء غيره، فلا نخوضُ في كلام السياسة، في توقّعاتٍ وسيناريوهاتٍ بشأن ما ستروح إليه غزّة بعد هذه الأسابيع الستة، ولا ننشغل بيومٍ تالٍ على الحرب التي لم يقُل أحدٌ بعد إنها ستنتهي، ولا أفضى نتنياهو بأنه سيتوقّف عن ارتكابها في وقت مقبل، فوحده يحدّد موعدها، ويعلن أسبابها. لم يشغل الغزّيون العائدون من خيام في خانيونس ورفح إلى خرائب في الشمال أمس أنفسهم بهذا، فالأوْلى لديهم أن يفرحوا بستة أسابيع وُعدوا بأنها ستكون بلا قتلٍ ولا صواريخ، أن يبتسموا ويضحكوا، أن يرقصوا ويزمّروا ويغنّوا. لم يزاولوا شيئاً من هذا منذ أكثر من عام. جوعُهم إلى قليلٍ من البهجة كثير. لنراها أوبةَ المشرّدين النازحين المهجرين، المكلومين بضياع أرزاقهم وبيوتهم، إلى منازلهم هناك في شمال غزّة، ما تهدّم منها وما تبقّت منه بقايا.

أراد مجرم الحرب نتنياهو أن يستفتح النهار الأول من الأسابيع الستة المقبلة بشيء من القتل اليومي المعتاد، فكان شهداءُ وجرحى، قبل أن يمشي الفرح بين الناس الذين انتظروا ساعاتٍ من هدوء البال في 15 شهراً انقضت ولم تأت، ساعاتٍ من النظر إلى سماء صديقةٍ لا تسرع فيها القذائف والقنابل والصواريخ إلى المدارس والمستشفيات ومراكز الإيواء والمساكن. انتظَروا أن يتيسّر لهم بعضُ الوقت لانتشال جثثٍ من حيث هي لم تُحرِز حقوقَها في قبورٍ لها. انتظروا الناس في جنوب غزّة وشمالها أن يتواصل بعضُهم مع بعضٍ، لا للسؤال عمن قتلوا منهم أو فقدوا أو جاعوا أو عزّ الدواء عنهم، وإنما ليتبادلوا أخباراً أخرى، عن بعض أمنٍ وأمانٍ وُعدوا به، جاء إليهم أمس بعد ماراثون قاسٍ وشديد الصعوبة في مفاوضاتٍ عسيرة، عن احتفال أرواحهم وأبدانهم بأحوالٍ أخرى قد تُصبح عليها حياتهم، عندما يقلّ الجوع مثلاً.

تًعطّل مشاهد الفرح هناك، المبثوثة بحمد الله وشكره على كل شيء، كلَّ كلامٍ آخر عن غير الأمل في الغزّيين بأن يشملهم ربّ العزّة برحمته، ويُديم ظلّ الأمن بينهم، ليُحاولوا ما أمكنَ رتْق جروحهم، عساهم يتعافون من آلامٍ شديدة الأوجاع غالبوها، أتعبتْهم بأكثر ما يكون التعب، منذ قرّرت حكومة الحرب الفاشية شنّ إبادةٍ لا سقوف لجرائمها. ولم تكن غزّة قبل هذا الفصل الدمويِّ وفظاعاته ترفُل بالأمان، فقد تكرّرت اعتداءات العدو سنةً بعد سنة، ذلك أن قراراً مُعلناً في دولة الاحتلال والاستيطان بأن يكون الشعب الفلسطيني في هذه الرقعة من موطنه منذوراً للحصار وظلم الأقربين والأبعدين، لمزايدات أحزاب الصهيونية العنصرية في تلبية شهوة المحو والاقتلاع والتقتيل، فكانت غزّة قبل جولة الإبادة ملعباً للعصابات التي تعاقبت على السلطة في تل أبيب، لكنها ظلّت أيضاً أرض المقاومة التي لا تلين شوكاتُها، وصاحبة بأس يفاجئ العدوّ بما لا يحتسب له. كان شبّانٌ منها أبطالاً في بسالتهم وهم يرمون العدو بما يُحرج صلفه وأوهامه عن نفسه. وأيّاً كان القول بشأن "7 أكتوبر" وما بعده، فإن ما أذاقه في جيش المحتلين ومستوطنيهم ومخابراتهم ثقيلٌ على المخ الإسرائيلي. ومع التسليم بأن الأهوال الفادحة أجهزت على الحياة في غزّة، ومع تأكيد البديهيِّ عن عظم الخسارة والفقد في استشهاد عشرات الآلاف، فهذا وذاك لا يقتطع من حقِّ كل غزّيٍّ بالزهو بجسارة المقاومين المحاربين الصامدين المجاهدين المرابطين، وهم يوقِعون في الجيش الغازي قتلى وجرحى، وبين هؤلاء وأولئك ضبّاطٌ رفيعون، وبزهوٍ مماثلٍ بقدرة هؤلاء الأبطال على الاحتفاظ بالأسرى كل هذه الشهور في ظروف اختناقٍ وحصارٍ وانكشافٍ فوق استثنائية.

أيُّ معجم يتّسع لمفردات الحبّ الحانية التي يلزم أن تنكتب، ونحن نتوجّه إلى الغزّيين بالاعتذار إليهم، عما كنا عليه من عجز، وبالدعاء بأن يُديم ربّ العزّة فرحهم المشتهى، وبأن يُنجيهم من الذئب الإسرائيلي الغادر؟ أيُّ لغةٍ في وسعها أن تمتلئ بفائض الإجلال لكل غزّيٍّ شهيدٍ وجريحٍ ومفقودٍ وصامدٍ ونازحٍ ومهجّر... وعائد؟