ممدوح الولي
خبير اقتصادي ورئيس نقابة الصحفيين الأسبق
بحسب البنك المركزي المصري، فقد تصدرت قائمة الدول التي اتجهت إليها الاستثمارات الأجنبية المباشرة الخارجة من مصر في العام المالي الأخير 2023/ 2024 والمنتهي آخر يونيو الماضي، إيطاليا بقيمة 2.881 مليار دولار، وهو ما يمثل نسبة 27 في المائة من إجمالي الاستثمارات الخارجة والبالغة 10.590 مليار دولار، تليها الولايات المتحدة بنصيب 1.544 مليار بنسبة 15 في المائة، وبريطانيا 1.383 مليار دولار بنسبة 13 في المائة. وفي المركز الرابع الإمارات العربية 1.364 مليار، وهولندا 708.5 مليون، وفرنسا 238 مليونا، وألمانيا 195 مليونا، والكويت 194 مليونا، وفي المركز العاشر السعودية بقيمة 190 مليون دولار.
وشملت قائمة العشر الثانية الأوائل: كوريا الجنوبية بقيمة 180 مليونا، تليها قطر وسويسرا والصين وكندا والسويد وبلجيكا وبرمودا والبحرين وإسبانيا ولكسمبورج بـ54 مليون دولار، وقائمة العشر الثالثة: تركيا بقيمة 54 مليون دولار، تليها تشيلي وأوكرانيا وأيرلندا وقبرص وسنغافورة وروسيا والهند وتونس وتايوان بـ22 مليون دولار.
ورغم أن هذا العام المالي قد شهد صفقة رأس الحكمة مع الإمارات أواخر الربع الثالث منه، وخفض سعر صرف الجنيه المصري أمام الدولار وبدء توفير الدولار للمستوردين، إلا أن خروج الاستثمار الأجنبي قد استمر بعد ذلك، فإذا كانت قيمة الاستثمارات الخارجة في الربع الأول منه قد بلغت 2.4 مليار دولار والربع الثاني 2.6 مليار، فقد زادت القيمة في الربع الثالث إلى 2.8 مليار وفي الربع الرابع بلغت 2.76 مليار دولار؛ لأن المستثمر الذي جهز قرار الخروج ثم جاءته قرارات مارس بخفض قيمة الجنيه ورفع سعر الفائدة، قد وجد عاملا إيجابيا متمثلا بتحريك سعر الصرف وعاملا سلبيا متمثلا برفع سعر الفائدة، كما أنه عادة بحاجة لفترة من الزمن حتى يطمئن لظهور عوامل إيجابية مستمرة، في ضوء تكرار التقلبات الاقتصادية بالسنوات الأخيرة منذ 2013، وها هي فترة الترقب التي اتخذها المستثمرون والتي مضى عليها نحو تسعة أشهر؛ تثبت صحة موقفهم حيث لم يتغير الكثير من مكونات مناخ الاستثمار حتى الآن.
استمرار معوقات الاستثمار المصرية
فما زال سعر الفائدة للاقتراض مرتفعا حيث يدور حول نسبة 32 في المائة، وما زالت نسبة التضخم مرتفعة واستمرت الحكومة تنافس القطاع الخاص على أموال البنوك، واستمرت مزاحمة الجيش للقطاع الخاص، كذلك استمرار الشكوى من كثرة الضرائب والرسوم التي تفرضها العديد من الجهات حتى بلغت نسبتها حوالي 45 في المائة من قيمة الكثير من السلع، وتأخر صرف دعم التصدير حتى بلغت قيمة متأخراته 60 مليار جنيه، وتأخر سداد الحكومة لمستحقات الشركات وهو ما يتضح مع شركات الأدوية والمقاولات، وما زال تمويل الواردات لبعض القطاعات يواجه صعوبات مثلما يحدث بقطاع السيارات.
وهناك بعض الدول زادت فيها قيمة الاستثمارات الخارجة إليها من مصر عن قيمة الاستثمارات الواردة منها لمصر، أبرزها إيطاليا بقيمة 781 مليون دولار، كفرق بين استثمار خارج قيمته 2.881 مليار دولار مقابل استثمار داخل بقيمة 2.1 مليار دولار، وتكرر هذا العجز مع كلا من أوكرانيا والتشيك وتونس والنمسا.
واقتربت قيمة الاستثمارات الخارجة من قيمة الداخلة مع دول أخرى، حيث مثلت قيمة الاستثمارات الخارجة للهند نسبة 92 في المائة من قيمة الاستثمارات الداخلة منها، وبلغت النسبة 86 في المائة مع دول الإتحاد الأوروبي مجتمعة، و75 في المائة مع تشيلي، و70 في المائة مع كندا، و69 في المائة مع أيرلندا، و62 في المائة مع كوريا الجنوبية.
وذكر المصرف المركزي المصري أن قيمة الاستثمارات الخارجة الإجمالية قد واصلت تراجعها للعام الثاني، حيث كانت قد بلغت أقصاها بالعام المالي 2021/2022 بقيمة 13.268 مليار دولار، ثم تراجعت إلى 13 مليارا و14 مليونا في العام المالي التالي، ثم إلى 10.6 مليار العام في المالي الأخير، لكن تلك البيانات المتراجعة لا تجد قبولا من بعض الخبراء ورجال الأعمال؛ لأن الرقم الأكبر لخروج الاستثمارات الأجنبية قبل عامين لم يشهد سوى أربعة أشهر فقط في نهايته، لتداعيات الحرب الروسية الأوكرانية، بينما زادت حدة المشاكل التي واجهتها الشركات العاملة في مصر بعد ذلك، خاصة نقص الدولار وتغول دور الجيش بالاقتصاد وانسداد الأفق السياسي مما دفعها للخروج بشكل أكبر.
اختلاف رقم الاستثمار المصري بالسعودية
ويدللون على ذلك برقم الاستثمارات التي خرجت من مصر إلى السعودية، في العام المالي الأخير والبالغ 190 مليون دولار حسب المصرف المركزي المصري، بينما شهد النصف الثاني منه دخول شركتي مقاولات مصريتين كبيرتين للسعودية هما: مجموعة طلعت مصطفى القابضة التي أطلقت مشروع المدينة المستدامة (بنان) في السعودية وحقق مبيعات ضخمة، كما افتتحت مجموعة حسن علام القابضة مقرها الإقليمي في الرياض، وهي الفترة التي شهدت منح وزارة الاستثمار السعودية 1739 رخصة استثمار لشركات مصرية، بينما ذكرت بيانات المصرف المركزي المصري أن قيمة الاستثمارات التي خرجت من مصر للسعودية بذلك النصف عام المالي 83 مليون دولار، بينما ازدحمت الصحف والمواقع الاقتصادية بأخبار الشركات المصرية التي امتدت بنشاطها للسعودية. وكانت المفارقة الواضحة بين رقم الاستثمار الخارج من مصر للسعودية في عام 2023 الميلادي كاملا، حين بلغ حسب المركزي المصري 256 مليون دولار، بينما بلغ حسب وزارة الاستثمار السعودي 1.522 مليار دولار حسب جنسية المستثمرين المصريين، كما زاد الرقم إلى 1.627 مليار دولار حسب تعريف آخر حسب جنسية الدول الأم المسيطرة للمستثمرين المصريين بنفس الفترة.
ولا غرابة في هذا الفارق الكبير فهو أمر متوقع في ظل الظروف التي تحكم المشهد الاقتصادي بمصر، ففي تلك الفترة ومع ذروة مشكلة نقص الدولار زادت الحملات الأمنية على حائزي الدولار، ومصادرة ما لديهم من عملات أجنبية رغم مخالفة ذلك للقانون الذي يبيح حيازة العملات الأجنبية. ولهذا فإن تحويل المستثمرين المصريين لأموالهم عبر البنوك المصرية لدول أخرى كان أمرا صعبا، حيث كانت الحملات الأمنية تفتش السيارات في الشوارع بحثا عن العملات الأجنبية، ومن هنا فإن البنك المركزي المصري يذكر ما تم من خروج للأموال للسعودية وغيرها من الدول عبر الجهاز المصرفي.
بينما تحايل المستثمرون على الإجراءات المشددة حينذاك، بإبقاء معظم حصيلة صادراتهم في الخارج، ونفس الأمر لحصيلة شركات السياحة المصرية، وهو ما اعترف به رئيس الوزراء المصري خلال لقائه الأخير برجال الأعمال، حين ذكر أن محافظ البنك المركزي قد شكا له من أن حصيلة السياحة التي يتم الإعلان عنها لا تدخل البنوك المصرية، وهو ما أكده رئيس البنك الأهلي أكبر البنوك المصرية بأن جانبا كبيرا من حصيلة الصادرات لا تدخل الجهاز المصرفي، ولهذا أضافت الحكومة مؤخرا شرط إدخال حصيلة التصدير للبنوك ضمن شروط الحصول على دعم التصدير.
ومن هنا نجد أنه عندما تصل قيمة الصادرات المصرية إلى السعودية بنفس العام المالي 2023/2024، وحسب بيانات المركزي أيضا، إلى 1.773 مليار دولار، فمن السهل على هؤلاء المصدرين إبقاء جانب منها للاستثمار في السعودية، سواء لحسابهم أو لحساب غيرهم من رجال الأعمال.
وعندما تصل قيمة الصادرات المصرية في نفس العام المالي للإمارات 3.7 مليار دولار وللولايات المتحدة 3.6 مليار ولبريطانيا 2.3 مليار ولإيطاليا 2.2 مليار دولار، فمن السهل عليهم استبقاء جانب منها للاستثمار في ذلك البلد أو في بلدان أخرى، وهي التحويلات المالية التي تتم خارج حسابات المصارف المصرية والبنك المركزي المصري وبما يشير لكبر قيمة الاستثمارات المصرية في الخارج عن الأرقام الواردة في بيانات المركزي المصري، حيث شهدت تصاعدا خلال الفترة الأخيرة وليس تراجعا كما ذكرت بيانات المصرف المركزي.