يواصل الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، حديثه الواثق المتحدي عن تنفيذ فكرته الإجرامية بشأن "تطهير غزّة من الشعب الفلسطيني"، معبّراً عن اعتقاده الراسخ بأن عبد الفتاح السيسي وملك الأردن سيفعلان ما يريده، وهو تهجير فلسطينيي غزّة إلى الأردن ومصر.

هذه الوقاحة المتغطرسة لم يعد مُجدياً في الردّ عليها خروج وزيري خارجية البلدين المعنيين بالموضوع بتصريحات وبيانات تؤكّد وتُعرب عن رفضها التهجير، إذ عاد ترامب، بعد كلام الوزيرين، ليؤكّد أنه تحدّث مع صديقه في مصر، الذي قال عنه حين التقاه عام 2019 في قمّة مجموعة السبع بباريس: "لقد فهم بعضنا بعضاً جيداً"، وأنه يعتقد أنه (السيسي) سيستقبل الفلسطينيين في مصر.

ويأتي تأكيد ترامب بعد إعلان خارجية مصر رفضها التهجير في بيان حمل اسمها، وهو ما كان يتطلّب هذه المرّة ردّاً واضحاً وقاطعاً من "صديقه الذي يفهمه جيداً"، أو على الأقل من المتحدّث الرسمي باسم الرئاسة، كما يحدث دائمًا عندما تكون القضايا المطروحة على مستوى الرؤساء، غير أن الردّ المصري جاء هذه المرّة على لسان مصدر رسمي مسؤول ومجهول الهوية أبلغ  قناة إخبارية مصرية أن مكالمة بين ترامب والسيسي لم تحدُث، من دون أن يتطرّق إلى الموضوع الأساس، التهجير، أو يعلن موقف الرئاسة منه.

ليست القضية هنا إن وقع الاتصال الهاتفي بين ترامب والسيسي أو لم يقع، فتلك مسألة لا تخرج عن احتمالين: إما أن أحد الطرفين يكذب ويدّعي شيئاً لم يحدث، أو أن الطرف الثاني يكذب فينكر وقوع شيء حدث بالفعل. لنفترض هنا أن الكذّاب هو دونالد ترامب، وبالتالي يستحق المصريون ردّاً صريحاً من مؤسسة الرئاسة على اعتقاد ترامب أنّ السيسي سينفّذ طلب التهجير، أولاً، وعلى ادّعائه الاتصال به، ثانياً. ولا يصح هنا أن يُترك الأمر لتغريدة من مصطفى بكري مُعبّأة بكمياتٍ من الشعارات القومية والوطنية المفتعلة، أو فيديو لمرتضى منصور يلعن فيه ترامب والصهاينة، ولا نواب برلمانيين.

كلُّ المطلوب بيان من سطرين يُصدره المتحدّث الرسمي باسم الرئاسة، كما يفعل البيت الأبيض، أو الدواوين الملكية والأميرية، مثلاً يقول إن مصر ترفض مبدأ تهجير الفلسطينيين جملة وتفصيلاً، ويؤكد أنّ السيسي لم يتحدّث مع ترامب في هذا الأمر، أو يُعاد استخدام نصّ البيان الذي أصدرته وزارة الخارجية مع تعديل بسيط، هو استبدال اسم جمهورية مصر العربية باسم وزارة الخارجية، ليقول: "تؤكد رئاسة الجمهورية تمسّك مصر بثوابت ومحدّدات التسوية السياسية للقضية الفلسطينية، واستمرار دعم مصر صمود الشعب الفلسطيني على أرضه وتمسّكه بحقوقه المشروعة في أرضه ووطنه، وبمبادئ القانون الدولي والقانون الدولي الإنساني. كذلك تشدّد على رفضها أي مساس بتلك الحقوق غير القابلة للتصرّف، سواء من خلال الاستيطان أو ضم الأرض، أو عن طريق إخلاء تلك الأرض من أصحابها من خلال التهجير أو تشجيع نقل الفلسطينيين أو اقتلاعهم من أرضهم، سواء كان بشكل مؤقت أو طويل الأجل".

ما الصعوبة في إصدار بيان بهذه الصياغة، بدلاً من أن يأتي الرد منسوباً إلى وزارة الخارجية، إذ يستخدم عبارات "تؤكّد وزارة الخارجية وتُشدّد وتُعرب"؟ ولماذا لم تلتزم وزارة الخارجية الصيغة التي تستخدمها دائماً في بيانات تتعلّق بمسائل أصغر وأقل أهمية وخطورة من الموقف الذي حشر به ترامب أصدقاءه بمصر والأردن في الزاوية؟

عشرات البيانات أصدرتها الخارجية المصرية، قبل بيان الردّ على التهجير، تبدأ وتنتهي بعبارات "تؤكّد جمهورية مصر العربية". وبعد هذا البيان أيضاً، يمكنك أن تقرأ على الموقع الرسمي للوزارة بيانين بتاريخ أمس 28 يناير/ كانون الثاني 2025 أحدهما يقول: "تتابع جمهورية مصر العربية بقلق التطورات الأخيرة في شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية"، والآخر يقول: "تدين جمهورية مصر العربية استهداف المستشفى السعودي في مدينة الفاشر"، فلماذا لم تستعن وزارة الخارجية بجمهورية مصر العربية في الردّ على ترامب؟

السؤال الأهم: لماذا لم يتحدّث السيسي بنفسه ويردّ على ادعاء ترامب بأنه اتصل به وأنه سيقبل بتهجير الفلسطينيين، وقد كانت أمامه الفرصة وهو يلقي كلمة أمس أمام رؤساء المحاكم الدستورية الأفارقة المجتمعين في مصر؟ لماذا تختبئ مصر الكبيرة العظيمة خلف "مصدر مطلع مجهول الهوية" حين يزعم هذا المتغطرس الأميركي أنها ستوافق على تفريغ غزّة من الفلسطينيين؟