عندما تذهب للتسوق في منطقة أسواق العتبة التاريخية في قلب القاهرة، وبالقرب من المزارات التاريخية السياحية مثل خان الخليلي وحي الحسين، تتداخل أصوات المدينة الصاخبة مع صرخات الباعة الجائلين إلى سمعك، وترى مشاهد يومية مليئة بالتحديات والصراعات.
تتحول الشوارع في كثير من الأحيان إلى ساحة كر وفر بين الباعة الجائلين وقوات الشرطة، في محاولة لفرض النظام والسيطرة على الفوضى. وفي الوقت نفسه، يستمر باعة آخرون في افتراش الأرصفة والطرقات وحول الأسواق ومحطات المترو أو مواقف السيارات، ما يعيق حركة المارة ويضيق الخناق على نبض الحياة في شرايين المدينة.
وبدلًا من إيجاد أماكن راقية، وإقامة منطقة تجارية تضم الباعة الجائلين وتنظم تجارتهم، تصر حكومة السيسي على الهدم بدعوى التطوير، وعلى مطاردة الباعة الجائلين بزعم تعديهم على حق الطريق وممرات المشاة.
ووفق دراسة حديثة أعدتها الغرفة التجارية بالشرقية -ونشرت بالصحافة المحلية- يتراوح عدد الباعة الجائلين، الذين يعدون جزءًا رئيسيًا من الاقتصاد غير الرسمي، بين 5 و7 ملايين بائع، ووصل حجم تجارتهم إلى 80 مليار جنيه على خلفية انتشارهم بأسواق عشوائية كثيرة أبرزها وسط العاصمة التي شهدت مشاهد كر وفر مع السلطات المحلية الساعية إلى التطوير، في مناطق العتبة ووسط البلد.
وبينما لا توجد إحصائيات رسمية حول الباعة الجائلين، حدد القانون إطار عملهم، ونص على تغليظ العقوبات على مخالفاتهم التي تصل إلى الحبس 3 أشهر أو غرامة ألف جنيه.
أهمية التطوير
بدأت حكومة السيسي عملية تطوير مزعومة بمشاركة الأمم المتحدة، في منطقة أسواق العتبة، وبالقرب من المزارات التاريخية السياحية مثل خان الخليلي وحي الحسين.
ويأتي ذلك وسط اعتبارات عدة من بينها أهمية تطوير المناطق التاريخية من جهة، والمردود الاقتصادي والسياحي للتطوير من جهة أخرى، وحقوق الباعة الجائلين وتأثيرات التطوير من جهة ثالثة.
وأعلنت وزيرة التنمية المحلية منال عوض بدء أعمال تنفيذ المرحلة الأولى من تطوير سوق العتبة مع بدايات شهر رمضان، وفقًا للنموذج الذي تم اعتماده وعرضه على ممثلي الباعة الجائلين وأصحاب المحلات التجارية باجتماعات استضافتها الوزارة خلال الشهور الماضية بحضور محافظ القاهرة إبراهيم صابر، ومشاركة ممثلي البرنامج الأممي للمستوطنات البشرية "الهابيتات" وفق بيان رسمي.
وكشف مسؤول محلي بتصريحات إعلامية سابقة في وقت سابق أن عدد الباعة الجائلين -في مناطق وسط القاهرة التي تضم العتبة- يتجاوز 13 ألف بائع، مؤكدًا أن العاصمة بها أكبر عدد من الباعة الجائلين.
وحسب الوزارة، فإن من أبرز ملامح التطوير تنفيذ 473 طاولة للباعة الجائلين بدلًا من الفرشات العشوائية، وطلاء واجهات العقارات ذات الطراز المعماري المميز للحفاظ على الهوية البصرية، وتوفير ممرات مرورية آمنة، وتحسين البنية التحتية، وتطبيق معايير السلامة والأمان. وأكدت أن ما يحدث "خطوة جديدة نحو تنظيم الأسواق وتحقيق التوازن بين متطلبات الباعة وحقوق أصحاب المحلات التجارية، من أجل بيئة حضارية تليق بمكانة العتبة التاريخية".
دمج الباعة الجائلين
ويؤكد مراقبون أهمية تطوير أسواق القاهرة التاريخية، وتأثير ذلك على الاقتصاد والسياحة، لكنهم يشددون على حقوق الباعة الجائلين وضرورة دمجهم في الاقتصاد الرسمي.
ويوضح عادل عامر الخبير الاقتصادي رئيس مركز المصريين للدراسات الاقتصادية والسياسية أن خطة التخطيط العمراني لقلب القاهرة التاريخية تبدأ من تطوير أسواق وسط العاصمة (مناطق العتبة ورمسيس وغمرة والإسعاف) وتنظيمها بشكل حضاري لإنهاء أعمال الإشغالات والأسواق العشوائية، وتوفيق أوضاع الباعة الجائلين بعيدًا عن الحلول الأمنية وفق تعليمات القيادة السياسية.، وفقًا لـ"الجزيرة نت".
ووفق أرقام رسمية، يشكل حجم الاقتصاد غير الرسمي وغير المرئي في مصر نسبة 30% من الناتج المحلي الإجمالي في حين يوظف ما يقرب من نصف قوة العمل.
ويضيف عامر أن الباعة الجائلين جزء من الاقتصاد غير الرسمي، ومن المهم دمجهم في الاقتصاد الرسمي لاستفادة الدولة منهم واستفادتهم هم من توفيق أوضاعهم، مؤكدًا ضرورة إنشاء أسواق حضارية توفر لهم فرص عمل آمنة تحت إشراف الدولة.
الحفاظ على الباعة الجائلين
بدوره، يؤكد محمد عبد القادر الأمين العام السابق للنقابة المستقلة للعمالة غير المنتظمة - - أنه مع التطوير بشرط الحفاظ على حقوق العمالة الجائلة وتقنين أوضاعها في الاقتصاد الرسمي للدولة، مشيرًا إلى أنه تقدم لوزير العمل محمد جبران بمشروع لدمج الباعة الجائلين والعمالة غير المنتظمة في القطاع الاقتصادي غير الرسمي، ومن المنتظر تمريره في مشروع القانون الذي يبحثه مجلس النواب حاليًا، وفقًا لـ"الجزيرة نت".
ويشدد عبد القادر على أنه يجب على وزارة العمل حصر العمالة الجائلة على المستوى الوطني، وتسكينهم وتوفير فرص عملهم، على أن تكون البداية من أسواق العتبة، وأن تتحمل الوزارة حصة في تكاليف التطوير من صندوق الطوارئ.
إتاوة يومية
وحسب عدد من البائعين فإن هناك بعض من أفراد الشرطة يسهلون استحواذ الباعة على الأرصفة والشوارع، إذ يتقاضون مبالغ مالية في مقابل التغاضي عن إشغالات الطريق، في حين وصل الأمر في سنوات سابقة إلى أن يكون فرد الشرطة نفسه هو المسيّر لتلك الأعمال (قد يتقاضون مبلغًا يصل إلى 100 جنيه يوميًا من البائع الواحد).
وبين الحين والآخر، تشن قوات الأمن بالتعاون مع موظفي الأحياء، عددًا من الحملات لرفع إشغالات الباعة الجائلين من الشوارع الرئيسة، لكنهم سريعًا ما يعودون؛ نظرًا لفرض الحي رسومًا إضافية للمساحات المستأجرة.
ولم يتردد علي – بائع أحذي في منطقة العتبة - في التحدث عن أشخاص من الباعة ذوي النفوذ، الذين يجمعون الإتاوات اليومية من زملائهم، ثم يقومون بتسليمها إلى قسم الشرطة. بينما يؤكد أحمد -بائع- أن الجميع يدفع اليومية، سواء كانوا أصحاب محال تجارية أو “فرش بضاعة”، وفي الأغلب يكون البائع المتجول الذي يستحوذ على مساحة في الشارع، تابع للمحل الملاصق أو المواجه له. ويضيف: “حتى بائعة المناديل التي تجلس من أجل التسول، تضطر لدفع يوميتها أو تُمنع من الجلوس”.
وعبر أحد الباعة الجائلين عن تحفظه على مواعيد التطوير الراهنة، وعلى قرار إخلاء عدد من الشوارع التجارية الداخلية ونقل الباعة العاملين منها إلى جراج العتبة الحكومي بصورة مؤقتة غير محددة في عز الموسم التجاري.
ومن جهته يصر البائع الشاب عبد الله محمود -وهو أحد الباعة الجائلين- على البقاء مكان عمله رغم بدء عمليات الحفر بالجوار للحفاظ على زبائنه.
ويقول إنه لا يعارض التطوير وإنه سيأخذ طاولة جديدة لبيع منتجاته وفق مشروع الحكومة بدلًا من "الفرشة" الحالية، لكنه كان يرجو بدء التطوير بعد عيد الفطر لأنه قد يخسر زبائنه بموسم الذروة في رمضان.
وبينما يزعم محافظ القاهرة أنه ستتم إعادة الباعة للسوق بعد انتهاء أعمال التطوير، وجهت وزيرة التنمية المحلية بسرعة الانتهاء من أعمال التطوير وفق نموذج الوزارة.
ومن جانبه، قال محمد عبد ربه الأمين العام المساعد لاتحاد العمال رئيس النقابة العامة للعاملين بالتجارة، إنه يقدر أن التطوير جاء في عز الموسم "ولكن مع قليل من الصبر سيحصد الباعة مكاسب التطوير الذي كثيرًا ما طالبنا به لتقنين أوضاعهم وتوفير عوامل السلامة والأمان بدلًا من تكرار الحرائق وملاحقة الشرطة لهم" مضيفًا أن تقنين الأوضاع يأتي عبر تسليم أكشاك للباعة الجائلين الذين لديهم استعداد لذلك.