ترتبط الأحداث التاريخية - السياسية الكُبرى، أو المنعطفات، بحركة الأفكار بصورة رئيسة، فهي تؤدّي إلى ولادة موجةٍ فكريةٍ جديدةٍ في أعقاب حالة أو تيّارات فكرية قائمة قبل تلك الأحداث. والحال أنّ حرب الإبادة الراهنة على غزّة بما تمثّله من حمولة هائلة من المشاعر والمشاهد، وما تثيره من حالة من الغضب والسخط لدى تيّار عريض وكبير من المجتمعات العربية، ستكون لها نتائجها الفكرية - الأيديولوجية الكبيرة في الثقافة الاجتماعية العربية في قادم الأيّام، بما ستؤول إليه من أحداث وتحوّلات استراتيجية على صعيد المنطقة العربية، وما ستؤدّي إليه من تراجع واضمحلال لأفكار معيّنة، وولادة أفكار أخرى بديلة تتواءم أكثر مع الحالة الشعورية والنفسية لدى الشارع بصورة عامة، والنخب الفاعلة فيه بصورة خاصّة.
اجتاحت، خلال العقود السابقة، موجات فكرية العالم العربي؛ مع إرهاصات الاستقلال والدولة القطرية ما بعد الكولونيالية، وفي أعقاب نكبة العام 1948، برزت الأفكار القومية واليسارية وتزاوجت معاً بصورة كبيرة، مع أحزابٍ مثل البعث والحركة الناصرية والقوميين العرب، ومع تشقّق الآمال الكبرى بوجود وحدة عربية قومية تكون قادرةً على مواجهة المشروع الصهيوني، وشكّلت الحرب الباردة بيئةً مناسبة لهذه التيّارات التي تغلغت في العديد من الجيوش العربية، وظهرت حركة الانقلابات العسكرية والقوى والأحزب القومية واليسارية والأنظمة التي تتبنّى هذا الخطاب في العراق وسورية ومصر والجزائر وليبيا واليمن.
شكّلت حرب 1967 منعرجاً جديداً ساهم في صعود الحركات الإسلامية التي تبنّت شعاراتٍ إسلامية وأفكاراً مرتبطةً بالبعد الحضاري الإسلامي بديلاً من المشروع القومي، واجتاحت هذه الأفكار والأيديولوجيات الشارع العربي، وإن لم تتمكّن من السيطرة السياسية على دول عربية عديدة كما حدث مع قرينتها القومية واليسارية، فإنّها شكّلت (ولا تزال) فاعلاً مهماً في المشهد العربي، لكنّها انقسمت بين تيّارات عديدة، منها ما يرتبط بالأيديولوجيات الراديكالية، بألوانها المختلفة والمتنوعة، التي ارتبطت، هي الأخرى، بأحداث عديدة؛ المواجهات مع الأنظمة العسكرية، ومرحلة السجون، والثورة الإيرانية 1979، وثورة النفط وما أدّت إليه من نشر السلفية عالمياً، واغتيال أنور السادات واجتياح بيروت في 1982... كلّها أثّرت بصورة كبيرة عبر موجات إسلامية جديدة هنا وهناك، مثل حركة الجهاد الإسلامي التي تبنّت فكرة الثورة الإسلامية (فتحي الشقاقي وكتابه "الخميني والحلّ الإسلامي")، وبروز الجماعات الإسلامية والجهادية المسلّحة، وصعود حزب الله والأفكار القطبية.
انهيار الاتحاد السوفييتي وحرب الخليج في 1991 قادا، أيضاً، نحو موجة جديدة في تيّاراتٍ فكريةٍ آلت إلى صعود تنظيم القاعدة، الذي شكّل ليس فاعلاً خطيراً في دول عربية عديدة فقط، بل أصبح ظاهرةً عالمية، ثمّ قادت انتفاضة الأقصى في العام 2000 إلى هجمات 11 سبتمبر (أيلول 2001) على الولايات المتحدة، ثمّ جاءت حرب العراق في 2003 بولادة تنظيم أبو مصعب الزرقاوي. لاحقاً، دفع "الربيع العربي" والثورة المضادّة تنظيم الزرقاوي ليصبح الوحش الكبير (الدولة الإسلامية أو الخلافة التي أعلنها أبو بكر البغدادي في 2014)، وتفشّي أفكار هذا التنظيم عالمياً لينقل "الفكرة الجهادوية" من المستوى النخبوي المحدود (القاعدة) إلى المستوى الشعبوي (داعش)، وعزّز ذلك الدور الكبير الذي بدأت تقوم به ثورة المعلومات والإعلام في العالم، التي أعادت تعريف المجال السياسي العربي، واستدخلت الجمهور (الشارع) إلى الملعب، عبر ما يمكن أن يُطلق عليه مصطلح "مشاعية اللعبة السياسية".
خلال العقدين الأخيرين، تمكن ملاحظة أنّ التيّارات الإسلامية كانت تتصدّر المشهد الشعبي بصورة كبيرة، وظهر ذلك في نتائج "الربيع العربي"، وفي وصولها إلى السلطة مؤقّتاً قبل أن تحدُث الثورات المضادة. لكنّ هذه التيّارات كانت في حالة تنافس وصراع كبير فيما بينها، لا يقلّ عن الصراع بينها وبين التيّارات السياسية الأخرى، ما بين خطاب راديكالي جذري يحمل مفاهيم الثورة والعمل المسلّح أو التغيير الكامل، وتيّارات دمجت الأفكار الديمقراطية والليبرالية في خطابها، وأخذت تتحوّل نحو نماذج ديمقراطية ضمن إطار اللعبة السياسية، بينما مُنيت الفكرة الجهادية بهزيمة فكرية وسياسية وعسكرية كبيرة من خلال انهيار نموذج "داعش"، وما قدّمه التنظيم من ممارساتٍ خطيرةٍ ومرعبة، فإنّ الفكرة الإسلامية - الديمقراطية هي الأخرى لم تكن أحسن حالاً مع انتكاسة "الربيع العربي" وفشل العديد من هذه الأحزاب (أو إفشالها) في اللعبة السياسية، بل التراجع الكبير الذي حدث في الدول التي شهدت الثورات إلى حروب داخلية وصراعات وأنظمة سلطوية أكثر شراسةً حتى من مرحلة ما قبل "الربيع العربي"... ساهم ذلك كلّه في إضعاف هذه الأحزاب والقوى، وإن ليس جذرياً أو جوهرياً، لأسباب تتعلّق، أولاً، بما واجهته لاحقاً من العودة إلى تجربة السجون والنفي واستعادة خطاب المظلومية التاريخية، ولعدم وجود خطاباتٍ تقدّم بديلاً يقتنع به الشارع، ولأنّ البديل السلطوي لم يقدّم حلولاً بقدر ما عزّز من واقع الأزمة المركبة سياسياً واقتصادياً في دول عربية عديدة.
جاءت الحرب على غزّة في سياق تلك التحوّلات الكبيرة.
وفي ضوء المعالم الأولية للواقع الراهن ومآلاته، ستكون أيديولوجيات كبرى ضحيةً أولى لهذه التداعيات، منها الأفكار القومية العربية التي سادت خلال العقود السابقة، لكنّها بدأت تأخذ مساراتٍ واضحةً من التراجع وغياب التأثير الحيوي في الجماهير، وهذا لا يعني أنّ الفكرة القومية - العربية نفسها تراجعت لدى الناس، لكنّ الأيديولوجيات التي تبنّتها النظم والأحزاب التقليدية العربية التي تربط التنمية والتحرير والقضية الفلسطينية معاً بشعاراتٍ ترفعها هذه الأنظمة، لم تعد مقنعةً للشارع، وتجاوزها بصورة كبيرة، وتمثّل الحرب على غزّة المسمار الأخير في نعش هذه الأفكار في المرحلة المقبلة.
الأحزاب والتيارات الليبرالية، وحتى الإسلامية المعتدلة، التي تبنّت، في الفترة السابقة، قيم الديمقراطية والحرّية وقضايا حقوق الإنسان، تسير اليوم عكس التيّار تماماً، سواء على صعيد ما يحدث في الدول الديمقراطية نفسها من انهيار لهذه القيم وتمثّلاتها الواقعية، مع صعود التيّارات الشعبوية واليمينة التي تضرب هذه القيم في الصميم هناك في معقلها، أو على صعيد انعكاسات الحرب على غزّة وموقف الإدارة الأميركية اليمينية الصهيونية المتواطئة مع العدوان الإسرائيلي، وتأثير مشاهد قتل الأطفال والنساء والمدنيين العزّل في الشارعين، العربي والإسلامي، اللذيْن لم يعودا قادريْن على شراء هذه البضاعة بوصفها قيماً إنسانية وحضارية عليا.
عودة على بدء، ما الملامح الرئيسة للموجة الفكرية القادمة؟... من المبكّر حسم الجواب؛ لأنّ الرمال السياسية في المنطقة لا تزال متحرّكة، والأحداث لم تستقرّ بعد، فلا تزال الحرب على غزّة في أوج العدوان الإسرائيلي، وتتزامن وتتوازى مع مشهد وديناميكيات غير مسبوقة في التاريخ العربي المعاصر، تتمثّل في الهيمنة الإسرائيلية، والوجه الجديد السافر للسياسة الأميركية في حقبة الرئيس دونالد ترامب، ولا تزال فصول المواجهة مع إيران لم تُحسم بعد، ولا تزال اللعبة الإقليمية لم تستقرّ على قواعد جديدة، ولا تزال الأوضاع الداخلية في دول عربية عديدة غير مستقرّة، وتتدافعها الأحداث والتطوّرات نحو المجهول الخطير، بينما لا تزال الأزمات الداخلية السياسية والاقتصادية (البطالة والفقر والحرمان الاجتماعي وفشل مشروعات التنمية وفقدان الشرعية السياسية وعجز الأنظمة العربية عن تقديم إجابات لهذه التحدّيات.. ذلك كلّه يمثل حال الدول العربية اليوم)، وعلى قاعد المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي "التحدّي والاستجابة"، فإن سيناريوهات التصلّب والانحطاط والتدهور والانحدار هي الأكثر قرباً من الواقع السياسي العربي.
هل وصلنا إلى نفق مظلم شديد لا ترى الشعوب أفقاً للخروج منه، بما ينتجه هذا من موجة خطيرة، أم قد تفتح بعض التحوّلات آفاقاً جديدة للتغيير والتحوّل؟ وبأيّ اتجاهٍ سيكون ذلك؟... ما يحدُث في غزّة وفلسطين خطيرٌ جداً، لأنّه يطرح تحدّياً ويستدعي جواباً، وما يحدُث في سورية مهم وخطير، وما قد يحدُث في العراق واللعبة الأميركية - الإيرانية خطير، وربّما ما يحدُث في تركيا اليوم من تظاهرات واحتجاجات إذا امتدّت، فستكون متغيّراً كبيراً (Game Changer) في المنطقة، ودور مصر والسعودية، ومحاولات لملمة الحالة العربية بصورة متواضعة أمام التحدّيات... ستشكل هذه النتائجُ البيئةَ التي ستنمو فيها الأفكار الجديدة.
ما تمكن ملاحظته، خلال العقدَين الأخيرَين أيضاً، أنّ ماكينة إنتاج الأفكار تغيّرت عما كانت عليه الحال، لم تعُد هذه الأفكار تبدأ من حواضن رسمية عربية أو من الأوساط الفكرية والثقافية المعتبرة، لم يعُد هنالك مفكّرون كبار يقدّمون أطروحات فكرية كبيرة تقود الموجات الفكرية والشعبية، بل أصبحت ولادة هذه الموجات تتم بسيولة شديدة، في عصر السيولة ومواقع التواصل الاجتماعي، وأصبحت الأحداث متقدّمةً على المفكّرين والمثقّفين وماكينات النظم العربية، ربما أشخاص مغمورون جداً هم من يولّدون الحركات والموجات التي يحاول الجميع اللحاق بها.