الوجه الاقتصادي الخفي للقمع التشريعي في مصر
الجمعة 11 أبريل 2025 12:30 م
بقلم: معتز الفجيري
أصدرت أخيراً الجبهة المصرية لحقوق الإنسان تقريراً باللغتين العربية والإنكليزية بعنوان "أموالهم غنيمة لنا: تهديد الشركات والاستثمار المحلي تحت ستار الحرب على الإرهاب". يقدّم هذا التقرير الهام، والصادر في توقيتٍ حسّاس بالنسبة للوضع المتأزّم الذي يمر به الاقتصاد المصري، شهادة حقوقية ميدانية عن حجم التخريب الذي يمكن أن ترتكبه السياسة في الاقتصاد، وعن اليد الباطشة للدولة التي يمكن عبر تشريعاتها وسياساتها الأمنية ذات الهدف السياسي ضيّق الأفق أن تشل تنافسية السوق الحر، وتعرقل نمو الاستثمارات الخاصة. الجديد الذي يأتي به هذا التقرير هو التفصيل، وبشهاداتٍ موثقةٍ من رجال أعمال وأصحاب شركات تعمل في مصر، عن الآثار الاقتصادية والاستثمارية الخطيرة المترتبة على التوظيف الواسع لتشريعات الإرهاب وتسمية الكيانات الإرهابية، وغيرها من مواد في قوانين العقوبات والإجراءات الجنائية تتعلق بالتحفظ على (ومصادرة) الأموال والأصول الخاصة. لقد انتشرت دولياً مسألة إدراج الإفراد والتنظيمات والكيانات على قوائم الإرهاب، وعادة ما يكون الإدراج على هذه القوائم موجّهاً ضد منظمات وكيانات أجنبية، وقد تصدّت محكمة العدل الأوروبية والمحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان في كثير من أحكامهما لمثل هذه القرارات، بسبب خطورة ما تفرضه من تدابير على حقوق وحريات الأفراد دون توافر ضمانات إجرائية كافية تبرر سلامة هذه التدابير. لكن الجديد في الحالة المصرية على مدار أكثر من عشر سنين أن هذه التدابير تمت وبشكل موسع ضد مواطني الدولة، وفي داخل البلاد ولأغراض سياسية واقتصادية بحتة في معظمها.
يكشف تقرير الجبهة المصرية بالأدلة والشهادات أن ترسانة التشريعات التي تبنّتها السلطة المصرية منذ عام 2015 لمواجهة الإرهاب وظفت من السلطات المصرية لأغراض اقتصادية لا علاقة لها بالأمن الجنائي أو بالأغراض المعلنة لهذه التشريعات. تحفّظت السلطات المصرية على أموال وأصول عدد كبير من الشركات ورجال الأعمال، لا صلة لكثير منهم بجماعة الإخوان المسلمين. على سبيل المثال، تم التحفظ عام 2015 على 532 شركة، وفي 2018 وصل عدد الشركات المتحفظ عليها إلى 118 شركة، وصلت قيمة أصولها إلى 16.7 مليار دولار. واستمرّت قضايا كثيرة حتى عام 2024، وشملت إجراءات التحفظ على الممتلكات الخاصة، والتي ضمّت رجال أعمال مصريين، لهم مساهماتٌ بارزةٌ في الاقتصاد الوطني. التحفظ على هذه الأموال والأصول يمكن الدولة من إدارتها فترات طويلة إلى أن تقرّر وقف الملاحقات القضائية أو تؤول ملكيتها لخزانة الدولة عبر المصادرة بعد صدور أحكام قضائية نهائية. تتيح قوانين مكافحة الإرهاب التحفّظ على الأموال والأصول الخاصة بمجرّد ضم الأفراد أو الكيانات لقوائم الإرهاب، والتي تستند عادة إلى تحرّيات أمنية من دون وجود أدلة كافية. وقد صدرت قرارات الإدراج على قوائم الإرهاب خلال الأعوام السابقة ضد آلاف من المصريين، الأمر الذي يستحيل معه عمليا تحرّي الأدلة لكل ملفٍّ على حده ضمن عملية قضائية تكفل ضمانات العدالة الطبيعية، والمحاكمة العادلة، وحقوق الدفاع. وطبقاً لشهاداتٍ نشرها التقرير، فقد أتاحت هذه الترسانة التشريعية للأجهزة الأمنية والسيادية تهديد وترويع كثير من رجال الأعمال، والشركات الخاصة، وفرض شروط عليهم تتعلق بأنشطتهم الاقتصادية داخل مصر تستفيد منها الحكومة، والتي عادة ما يُستجاب لها خوفاً من سلاح الإدراج على قوائم الإرهاب، والمعاناة من تداعيات ذلك من سياساتٍ تشمل التحفّظ على الممتلكات، وغيرها من إجراءاتٍ تقضي علي سمعة الشركة ونشاطها الاقتصادي، وتقيّد من حرية الأفراد وتنقلهم. وينقل التقرير أيضاً شهاداتٍ مروّعة عن وقائع استيلاء غير قانوني على الأصول والأموال في أثناء المداهمات الأمنية لمقار شركات أو منازل رجال الأعمال من دون ظهور هذه الممتلكات لاحقاً أمام جهات التحقيق.
لدى الهيئات المالية الدولية والمانحين الدوليين والإقليمين صورة كاملة عن العوائق المؤسّسية والبنيوية التي تمنع الاقتصاد المصري من النمو بشكل صحي. تتفق تقارير صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، وتقارير الاتحاد الأوروبي في إطار سياسة الجوار الأوروبية على غياب التنافسية في الاقتصاد المصري، والتدخّل غير الشفاف للدولة وأجهزتها في الاستثمار والأسواق. ويتبنّى التشريع المزمع تبنيه قريبا من مؤسّسات الاتحاد الأوروبي، والذي ستحصل بموجبه الحكومة المصرية على أربعة بلايين يورو مساعدات مالية، شروط تبني السلطات لإصلاحات هيكلية لتعزيز حوكمة المالية العامة، وتعزيز الشفافية والمساءلة، ودعم المنافسة وفتح الأسواق، ومواجهة تشوه الأسواق بسبب هيمنة الدولة، خاصة من خلال الشركات العامة، وغياب المنافسة العادلة والتمييز بين القطاعين العام والخاص. لكن الممارسة الفعلية جرّت منذ بدأ تعامل الحكومة المصرية الحالية مع صندوق النقد الدولي عام 2016 إلى تغاضي الجهات الدولية عن فشل السلطات المصرية للوفاء بهذه الإصلاحات الهيكلية. وتتجنّب هذه الهيئات الدولية التحدّث صراحة عن تأثير الأدوات الأمنية والتشريعية السلطوية، مثل التي تحدّث عنها تقرير الجبهة المصرية، في ضعف الاستثمار وتدني مؤشّرات الاقتصاد الحر.
لن يكون التعامل التقني مع أزمات الاقتصاد المصري كافياً من دون مكاشفة للآثار الخطيرة التي نتجت من التشريعات والسياسات الأمنية السائدة في البلاد خلال العقد الأخير، والتي تعصف بالحد الأدنى من ضمانات حكم القانون والعدالة الإجرائية. وفي هذا التوقيت الذي تتوالى فيه محاولات إسعاف الاقتصاد المصري من المانحين الدوليين، يأتي تقرير الجبهة المصرية ليذكّرنا أن بطش السياسة وتدنّي حقوق الإنسان وضمانات حكم القانون تعدّ من المسبّبات المسكوت عنها عمداً لفقر الاقتصاد وغياب العدالة الاجتماعية.