في 31 مايو 2025، عقد وزراء خارجية مصر والجزائر وتونس اجتماعًا في القاهرة هو الثاني من نوعه، أعادوا فيه التأكيد على رفضهم القاطع لكل أشكال التدخل الخارجي في ليبيا، معتبرين أن هذه التدخلات تؤدي إلى تأجيج التوتر الداخلي وإطالة أمد الأزمة الليبية.
وأكد البيان المشترك أهمية إعلاء مصالح الشعب الليبي والحفاظ على مقدراته وممتلكاته، مع ضرورة تحقيق التوافق بين كافة الأطراف الليبية دون إقصاء، ودون تدخلات خارجية قد تعمق الانقسامات والصراعات
وفي خطوة اتسمت بالتنسيق الدبلوماسي، صدر بيان مشترك عقب الاجتماع الأول لوزراء خارجية الدول الثلاث في تونس في 22 مايو 2025، دعا فيه الأطراف الليبية كافة إلى التحلي بضبط النفس والتمسك بالحل السياسي بإشراف الأمم المتحدة.
هذه المواقف تأتي في أعقاب تصعيد جديد في ليبيا، تمثل في اشتباكات مسلحة في طرابلس وبنغازي منذ مطلع الشهر نفسه، بين قوات تابعة لحكومة الوحدة الوطنية وأخرى تتبع القائد العسكري خليفة حفتر، الذي يحظى بدعم مباشر أو غير مباشر من بعض القوى الإقليمية، وفي مقدمتها النظام المصري.
تم خلال الاجتماع الاتفاق على إعادة تفعيل آلية دول الجوار الثلاثية التي تضم مصر والجزائر وتونس، والتي تأسست عام 2017 وتوقفت عام 2019، بهدف دعم الأمن والاستقرار في ليبيا، وأكد الوزراء على ضرورة عقد اجتماعات دورية لهذه الآلية، حيث من المقرر عقد الاجتماع الوزاري المقبل في الجزائر ثم تونس قبل نهاية عام 2025، لتعزيز التنسيق وتبادل الرؤى حول مستقبل المشهد السياسي الليبي.
وأكد الوزراء في بيانهم ضرورة خروج القوات الأجنبية والمرتزقة في فترة زمنية محددة، ودعم جهود لجنة "5+5" العسكرية المشتركة لتثبيت وقف إطلاق النار القائم.
شدد وزراء خارجية الدول الثلاث على ضرورة التزام كافة الأطراف الليبية بأقصى درجات ضبط النفس والوقف الفوري للتصعيد العسكري، داعين إلى الإسراع في توحيد المؤسسات الليبية وعقد الانتخابات البرلمانية والرئاسية بالتزامن، كخطوة حاسمة نحو إنهاء الانقسام السياسي الحالي.
وأكدوا أن الحل السياسي يجب أن يكون "ليبيا-ليبيا"، نابعًا من إرادة وتوافق كافة مكونات الشعب الليبي، مع دعم الأمم المتحدة ودول الجوار، وبما يراعي مصالح أبناء ليبيا دون إقصاء.
مفارقة التدخل: نظام السيسي بين الموقف الرسمي والممارسات الواقعية
المفارقة تكمن في أن النظام المصري، بقيادة عبد الفتاح السيسي، الذي جاء إلى الحكم عبر انقلاب عسكري في 3 يوليو 2013، يُعتبر من أبرز الداعمين لقوات خليفة حفتر في الشرق الليبي، فقد وثّقت تقارير أممية عديدة، من بينها تقرير لجنة الخبراء التابعة للأمم المتحدة في مارس 2021، وجود دعم لوجستي وعسكري مصري لحفتر، بما في ذلك تدريب قواته على الأراضي المصرية وتزويدها بأسلحة.
وأظهر تقرير لمركز كارنيغي في مارس 2023 أن القاهرة "ليست وسيطًا نزيهًا في ليبيا، بل طرفًا فاعلًا يعكس توجهًا إقليميًا معاديًا للديمقراطية".
وفي تصريح لافت، أعلن السيسي يوم 20 يونيو 2020 أن "الخط الأحمر للأمن القومي المصري هو سرت والجفرة"، في إشارة مباشرة إلى الاستعداد للتدخل العسكري المباشر، وهو ما اعتبره كثيرون تهديدًا صريحًا للسيادة الليبية.
دلالة التوقيت الحالي للتصعيد
التصعيد الحالي للتدخلات الخارجية يعود إلى تدهور الوضع السياسي والأمني في ليبيا، مع فشل الاتفاقات السياسية وتزايد الانقسامات بين الأطراف الليبية، مما دفع دول الجوار والقوى الإقليمية إلى محاولة فرض نفوذها بشكل مباشر أو غير مباشر، كما أن التنافس الدولي الإقليمي على البحر المتوسط وملف الهجرة غير الشرعية يعزز من دوافع التدخل في هذا التوقيت
انتقائية المواقف
رغم تبني القاهرة خطابًا يدعو للحوار السياسي، إلا أن دعمها المستمر لأحد أطراف النزاع يقوّض جهود السلام، ففي الوقت الذي أُعلن فيه دعم مصر لخارطة الطريق الأممية للانتخابات الليبية المقررة في نهاية عام 2025، استمرت التقارير في رصد تحركات عسكرية لحفتر بالتنسيق مع القاهرة.
ويقول الباحث الليبي خالد السنوسي في تصريح لموقع "ميدل إيست آي" بتاريخ 27 أبريل 2025، إن "النظام المصري يمارس تدخلًا فعليًا يتناقض كليًا مع ما يعلنه دبلوماسيًا، وهو ما يساهم في تعميق الانقسام الداخلي الليبي".
كما وصف السنوسي موقف تونس والجزائر بأنه أكثر اتزانًا وارتكازًا على دعم المؤسسات الشرعية، دون الاصطفاف العسكري.
السيسي في مأزق: بين الخطاب الإقليمي والضغوط الدولية
تشير الوقائع إلى أن تدخل السيسي ساهم في تعطيل أكثر من جولة للحوار الليبي، كان آخرها محادثات القاهرة في فبراير 2025، التي قاطعتها حكومة الوحدة بعد رفضها شروط حفتر المدعوم مصريًا.
وتواجه القاهرة ضغوطًا أمريكية وأوروبية متزايدة لوقف دعمها العسكري لحفتر، وهو ما ظهر في تقرير البرلمان الأوروبي في يناير 2025 الذي وصف التدخل المصري بـ"السلبي والمخل بتوازن العملية السياسية".
لماذا تخشى الجزائر وتونس التصعيد؟
التحرك الأخير من الجزائر وتونس لم يكن فقط رد فعل على تدهور الوضع الأمني في ليبيا، بل تعبيرًا عن مخاوف حقيقية من أن تتحول الأزمة إلى حرب إقليمية بالوكالة.
الجزائر، التي رفضت في أكثر من مناسبة أي تدخل أجنبي في جارتها الشرقية، شددت عبر وزير خارجيتها أحمد عطاف في مؤتمر صحفي بتاريخ 23 مايو 2025 على أن "أمن ليبيا من أمن الجزائر، ولن نسمح بجعلها ساحة صراع دولي".
كذلك، دعت تونس، التي تواجه صعوبات سياسية داخلية، إلى التهدئة، معتبرة أن "الرهان على الحلول العسكرية لن يجلب سوى مزيد من الفوضى"، حسب تعبير رئيس الجمهورية قيس سعيد يوم 24 مايو.
لماذا تعتبر دول الجوار التدخل الخارجي في ليبيا يشكل تهديدًا خطيرًا للمنطقة؟!
لعدة عوامل أبرزها:
- تأجيج التوتر الداخلي وإطالة أمد الأزمة
التدخلات الأجنبية تزيد من تعقيد الأزمة الليبية وتؤدي إلى تأجيج التوترات بين الأطراف الليبية المتنازعة، مما يطيل أمد الصراع ويحول دون التوصل إلى حل سياسي شامل.
هذا ما أكدت عليه مصر والجزائر وتونس في بيان مشترك بتاريخ 31 مايو 2025، حيث رفضت هذه الدول كل أشكال التدخل الخارجي الذي يفاقم الانقسامات ويؤدي إلى انتشار العنف والإرهاب.
- انتشار السلاح والميليشيات المسلحة
التدخلات الخارجية ساهمت في انتشار السلاح والميليشيات المسلحة والمرتزقة داخل ليبيا، ما جعل البلاد ساحة لصراعات مسلحة متعددة الأطراف، مما يعقد جهود الاستقرار ويهدد الأمن الداخلي الليبي.
- تأثير مباشر على الأمن الإقليمي
ليبيا تشكل عمقًا استراتيجيًا للجزائر وتونس ودول الجوار الأخرى، لذا فإن استمرار الصراع الليبي وعدم استقراره ينعكس سلبًا على الأمن القومي لهذه الدول.
الجزائر، على سبيل المثال، شهدت تهديدات أمنية مباشرة جراء انتشار السلاح والجماعات الإرهابية على طول الحدود المشتركة مع ليبيا، بالإضافة إلى تدفق الهجرة غير الشرعية التي تؤثر على استقرارها الداخلي.
- تعقيد جهود التسوية السياسية
التدخلات الأجنبية تعرقل الحوار الوطني الليبي وتعيق توحيد المؤسسات الليبية، مما يطيل حالة الانقسام السياسي ويجعل الحل السياسي بعيد المنال.
الدول المجاورة ترى أن الحل يجب أن يكون "ليبيا-ليبيا" نابعًا من إرادة الشعب الليبي دون تدخل خارجي يفرض أجندات خارجية.
- تزايد نشاط الجريمة المنظمة والهجرة غير الشرعية
الأزمة الليبية تحولت إلى مركز لعمليات تهريب السلاح والمهاجرين غير الشرعيين إلى أوروبا عبر ليبيا، مما يهدد الأمن الإقليمي ويزيد الأعباء على دول الجوار وأوروبا على حد سواء. هذا الأمر يعزز مخاوف دول الجوار من أن استمرار التدخلات الخارجية يفاقم هذه الظواهر الأمنية.
- خطر تحويل ليبيا إلى ساحة صراع دولية
وجود قواعد عسكرية أجنبية وقوات مرتزقة في ليبيا قد تستخدمها قوى دولية للقيام بعمليات عسكرية، مما يؤدي إلى تصعيد الصراع وتدهور الأوضاع السياسية والاقتصادية والأمنية في ليبيا والمنطقة بأكملها.
أسباب التدخل الخارجي في ليبيا؟!
يرجع التدخل الخارجي في ليبيا إلى عوامل متعددة ترتبط بمصالح دولية وإقليمية متشابكة، وقد شهدت ليبيا منذ سقوط نظام معمر القذافي في 2011 تدخلات متصاعدة من قوى إقليمية وعالمية، تتنافس على النفوذ والموارد في بلد يعاني من هشاشة الدولة وانقسام سياسي عميق.
أولاً: إسقاط نظام القذافي
بدأ التدخل الخارجي بشكل مكثف في عام 2011 مع اندلاع الانتفاضة الشعبية ضد نظام القذافي، حيث تدخل حلف شمال الأطلسي (الناتو) بقيادة دول غربية، مدعومًا بغطاء من مجلس الأمن الدولي، للمساعدة في الإطاحة بالقذافي، كان هذا التدخل مدفوعًا برغبة دولية مشتركة في التخلص من نظام استبدادي كان يشكل مصدر قلق أمني وسياسي للمنطقة والعالم.
ثانياً: الصراع على النفوذ والموارد
ليبيا تمتلك احتياطيات ضخمة من النفط والغاز (48 مليار برميل نفط و54 ترليون قدم مكعب من الغاز)، إضافة إلى مناجم الذهب واليورانيوم، وموقعها الجغرافي الاستراتيجي على البحر المتوسط وقربها من أوروبا وأفريقيا، هذه العوامل تجعلها هدفًا لتدخلات دولية تسعى للسيطرة على مواردها وتأمين مصالحها الاقتصادية والاستراتيجية.
ثالثاً: الصراع الإقليمي
تتداخل في ليبيا مصالح إقليمية متنافسة، حيث تدعم تركيا حكومة الوفاق الوطني المعترف بها دوليًا، وتستخدم ليبيا كمنصة لتعزيز حضورها في البحر المتوسط، في مواجهة صراعاتها مع اليونان وفرنسا.
في المقابل، تدعم مصر والإمارات والعديد من الدول الأخرى قوات الجنرال خليفة حفتر، الذي يمثل محورًا عسكريًا وسياسيًا معارضًا لحكومة طرابلس.
رابعاً: استخدام المرتزقة والقوات الأجنبية
شهدت ليبيا تدخلات عسكرية مباشرة وغير مباشرة من خلال استخدام مرتزقة وقوات شبه رسمية، مثل المرتزقة الروس من "مجموعة فاغنر" المدعومة من روسيا، والمقاتلين المدعومين من تركيا، هذا التدخل العسكري بالوكالة يعزز الصراع ويحول ليبيا إلى ساحة حرب بالنيابة بين القوى الدولية والإقليمية.
خامساً: غياب دولة مركزية قوية
تفتقر ليبيا إلى مؤسسات دولة قوية وموحدة بعد سقوط نظام القذافي، مما خلق فراغًا أمنيًا وسياسيًا استغله الفاعلون الخارجيون لتوسيع نفوذهم، مستغلين هشاشة الدولة الليبية والصراعات الداخلية المستمرة.
باختصار، التدخل الخارجي في ليبيا هو نتاج تداخل مصالح دولية وإقليمية في بلد غني بالموارد وموقعه استراتيجي، مع استغلال حالة الانقسام الداخلي والضعف السياسي، والتوقيت الحالي يعكس تصاعد الصراعات الإقليمية والدولية التي تتنافس على النفوذ في ليبيا والمنطقة
رغم خطاب القاهرة المعلن عن دعم "الحل السياسي"، فإن الواقع الميداني والدعم الواضح لأطراف بعينها يطرح تساؤلات عميقة حول مصداقية الدور المصري، خاصة في ظل نظام جاء إلى الحكم بقوة السلاح، في المقابل، يبدو أن الجزائر وتونس تحاولان الحفاظ على اتزان دبلوماسي يعكس حرصًا أكبر على استقرار ليبيا بعيدًا عن لعبة المحاور التي أضعفت المنطقة.