في مقال نشره موقع ميدل إيست آي، تصف الكاتبة سمية الغنوشي مشاهد الجوع والمعاناة في غزة، حيث تنحني امرأة في الشارع المدمّر، جسمها الهزيل يرتجف، تقضم الأرض بحثًا عن فتات دقيق. حولها، آخرون ينحنون، ليس للعبادة بل للبحث عن ما تبقى من غذاء لم تطأه الأحذية أو تذروه الرياح أو تدمره القنابل. تنكسر المرأة أخيرًا، وتنهار على الأرض، وتصرخ بمرارة: "أطفالي سيأكلون دقيقًا مكشوطة من الأرض".
هذا المشهد ليس مجرد جوع. هو إذلال متعمد، يهدف إلى تحطيم الشعب الفلسطيني في غزة، ودفعه إلى حافة الانهيار. المساعدات لم تعد وسيلة للنجاة، بل أصبحت أداة قمع. الطحين يُخزَّن ويُمنع ويُستخدم كطُعم. عائلات تمشي أميالًا وسط الدمار والجثث، لتصل إلى نقاط التوزيع، فتجد أمامها حواجز وجنودًا وطائرات مسيّرة، وإذا اقتربت، تُطلق عليها النار.
يوم الأحد، قُتل أكثر من ثلاثين فلسطينيًا وجُرح أكثر من 170 في رفح، بينما كانوا يحاولون الحصول على مساعدات غذائية أنزلتها مؤسسة غزة الإنسانية (GHF) المدعومة أمريكيًا. المساعدات تحوّلت إلى فخ، والجوع إلى ذريعة للقتل. المؤسسة، وفقًا للمقال، لا تقدم طعامًا بل تُوزّع الألم. حتى الوجبات المعلنة — 1750 سعرة حرارية للفرد — لا تكفي لتجنب سوء التغذية، بحسب معايير منظمة الصحة العالمية التي تحدد الحد الأدنى بـ2100 سعرة.
في أبريل 2024، نجا السكان في شمال غزة على 245 سعرة حرارية يوميًا فقط، أي أقل من علبة فول، وفقًا لمنظمة أوكسفام. كبار السن يمضغون دقيقًا مختلطًا بالرمل، والأطفال الصغار يقتاتون على أوراق الشجر. الجسد يبدأ في التهام نفسه، والأنفاس تتباطأ. الموت لا يأتي بالقصف فقط، بل بالجوع الصامت الذي ينهش الأحشاء.
المقال يرى أن هذه السياسة ليست عشوائية، بل تكرار لتكتيك نازي استخدم خلال الحرب العالمية الثانية، عُرف باسم "خطة التجويع" (Hunger Plan)، استهدف إبادة ملايين المدنيين السوفييت واليهود عن طريق التجويع المنهجي، حيث قُتل سبعة ملايين إنسان بهذه الطريقة.
كما فرض النظام النازي تسلسلًا عنصريًا في توزيع الطعام: 100% للألمان، 70% للبولنديين، 20% لليهود. وفي جيتو وارسو، لم يكن الجوع نتيجة فشل، بل سياسة مقصودة. واليوم، يواجه سكان غزة — أكثر من مليوني إنسان — نفس المصير، حيث يُحرم الجميع من الغذاء، صغارًا وكبارًا، نساءً ورجالًا.
وتقول الكاتبة إن خطة مؤسسة غزة الإنسانية — حتى في أفضل سيناريوهاتها — ستخدم فقط 1.2 مليون شخص، مما يعني أن نصف السكان سيُتركون للجوع. حتى هؤلاء الذين يحصلون على المساعدات، لن يتجاوز استهلاكهم اليومي 1000 سعرة حرارية، وهو معدل يقترب مما قُدم ليهود غيتو وارسو.
غزة، بحسب الأمم المتحدة، أصبحت "أكثر الأماكن جوعًا على وجه الأرض"، إذ يواجه كل السكان خطر المجاعة. في المقابل، يصرح وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش بأن "حتى حبة قمح" لا يجب أن تدخل غزة، في حين تروج جماعة بريطانية مؤيدة لإسرائيل أن الحرب قد "تقلل من السمنة" في القطاع — في تعبير فج عن ازدراء المتضررين.
يشير المقال إلى أن هذه ليست فوضى بل خطة ممنهجة لتحويل الجوع إلى فوضى والمجاعة إلى استسلام. حتى مدير مؤسسة غزة الإنسانية وهو جندي أمريكي سابق، استقال من منصبه محذرًا من أن المشروع لا يتوافق مع المعايير الإنسانية. التقرير يذكر أن جماعات مسلحة تسرق المساعدات وتتحرك بحرية في مناطق خاضعة للسيطرة الإسرائيلية، بينما قُتل 12 حارسًا حاولوا حماية الغذاء.
غزة، كما تصفها الكاتبة، ليست ساحة معركة بل سجن مكشوف. أرض مدمّرة يقبع فيها شعب بأكمله تحت الحصار، ويُقصف جوًا وبحرًا ويُجَوَّع عمدًا. تقارن الغنوشي بين غزة اليوم وجيتو وارسو قبل 80 عامًا، حيث وثّق أطباء يهود آثار الجوع، وكتب أحدهم: "أمسك قلمي والموت يحدّق بي… في هذا الصمت تكمن قوة ألمنا".
اليوم، أطباء غزة يكررون نفس الشهادات. يعالجون أطفالًا لم يأكلوا منذ أيام، يرون رضّعًا يموتون بعيون غائرة وأضلاع بارزة. يتحدثون للعالم، لكن العالم يصم أذنيه. سكان غزة لا يُجَوَّعون فحسب، بل يُنتزع منهم آخر ما يملكون: الكرامة. يُعاملون كأنهم دون البشر — يُقصفون وهم يطلبون الطعام، ويُقتلون وهم يبحثون عن لقمة.
لأن إسرائيل، كما تختم الكاتبة، لا تكتفي بتحطيم أجساد الفلسطينيين، بل تريد كسر أرواحهم ومحو إرادتهم في الوجود.
https://www.middleeasteye.net/opinion/war-gaza-how-israel-replicating-nazi-starvation-tactics