في خضم التوترات المتصاعدة في المنطقة، وعلى وقع ضربات عسكرية استهدفت مواقع حساسة في إيران، من بينها منشآت نووية قرب أصفهان في مايو ويونيو 2025، خرج مجلس وزراء الانقلاب المصري يوم 12 يونيو ببيان ينفي فيه “وجود أي مؤشرات على تغير مستوى الخلفية الإشعاعية داخل الأراضي المصرية”، لكن هذا التصريح الذي يبدو مطمئنًا ظاهريًا، أثار تساؤلات حادة لدى الأوساط المعارضة، خصوصًا في ظل تاريخ النظام المصري في التعتيم على الأزمات البيئية والصحية وتجاهل الشفافية العلمية.
القصة تبدأ من أصفهان.. والتداعيات لا تتوقف عند حدود إيران
في 28 مايو 2025، أعلنت وكالة الطاقة الذرية الإيرانية أن أحد المجمعات البحثية في منطقة أصفهان، يضم مختبرات نووية ومرافق تخصيب، تعرض لأضرار بعد هجوم جوي لم تعلن أي جهة مسؤوليتها عنه بشكل رسمي، رغم ترجيح تورط إسرائيل.
وأكد تقرير صادر عن معهد العلوم والأمن الدولي (ISIS) يوم 2 يونيو، أن الهجوم تسبب في “خلخلة هياكل الحماية البيولوجية” للمبنى، ما قد يؤدي إلى تسربات محدودة من نظائر مشعة في الجو مثل السيزيوم-137 واليود-131.
الخبر دفع عدة دول مجاورة منها تركيا وقطر إلى رفع مستوى المراقبة الإشعاعية مؤقتًا، بينما أصدرت الأردن تنبيهًا في 4 يونيو بشأن “مراقبة دقيقة لأي تغير في النشاط الإشعاعي قد ينتقل عبر الغلاف الجوي”.
وحدها حكومة الانقلاب المصرية رغم قربها الجغرافي واتجاهات الرياح الصيفية الحاملة من الشرق إلى الغرب أنكرت أي تأثير محتمل.
بيان حكومة الانقلاب.. مطمئن أم مخادع؟
في بيان رسمي لمركز معلومات مجلس الوزراء، صدر يوم 12 يونيو، أكدت الحكومة المصرية أنه “لا توجد أي مؤشرات على تغير مستويات الإشعاع في مصر”، وأضاف البيان أن "وزارة البيئة بالتنسيق مع هيئة الرقابة النووية والإشعاعية لم ترصد أي خلل"، لكن الخبراء يرون في هذا التصريح محاولة لتغطية فشل النظام في التعامل الجاد مع تهديد بيئي محتمل.
الدكتور حسين غنيم، الباحث المصري السابق في الوكالة الدولية للطاقة الذرية، علّق على البيان بقوله: "الأنظمة الاستبدادية غالبًا ما تخفي المعلومات النووية، خصوصًا إذا كان النظام نفسه غير شفاف في سياساته، لا يمكن لأي جهة مسؤولة أن تنفي التأثيرات دون الكشف عن بيانات مفصلة لمحطات المراقبة المنتشرة في البلاد، وهو ما لم تفعله مصر".
هل يمكن أن تتأثر مصر فعلًا؟ الأضرار المحتملة علميًا
وفقًا لتقرير معهد الأبحاث النووية الفرنسي (IRSN) الصادر في 2020، فإن أي تسرب إشعاعي كبير من منشأة نووية قد يؤثر على نطاق يتراوح من 300 إلى 2000 كلم اعتمادًا على الرياح والمناخ، المسافة بين أصفهان والعاصمة المصرية القاهرة هي نحو 2400 كلم، لكن الرياح الموسمية التي تهب من الشرق يمكنها حمل جزيئات مشعة لمسافات طويلة عبر الغلاف الجوي العلوي، وتستقر على الأرض مع الأمطار أو عبر الاستنشاق.
الأضرار المحتملة للإشعاع النووي على الإنسان
الآثار المحتملة على البشر، حتى من تسرب ضعيف، تشمل زيادة طفيفة في معدلات السرطان، خصوصًا سرطان الغدة الدرقية بسبب اليود المشع، وتلفًا في الجهاز التنفسي نتيجة السيزيوم المشع، ولا يمكن استبعاد التأثير التراكمي على المدى الطويل، خاصة مع ضعف المراقبة البيئية.
الإشعاع المؤين، الذي قد ينجم عن حوادث نووية، يمكن أن يسبب أضرارًا صحية خطيرة إذا تجاوزت الجرعات حدودًا معينة.
تشمل الأضرار الحادة:
- الإصابة الإشعاعية الحادة التي تؤدي إلى تقليل إنتاج كريات الدم الحمراء، مما يسبب فقر الدم، وضعف الجهاز المناعي، ونزيفًا لا يمكن السيطرة عليه.
- متلازمة النسج المكونة للدم التي تؤدي إلى نزف وعدوى شديدة، وقد تكون مميتة في بعض الحالات.
- متلازمة الأمعاء التي تسبب إسهالًا مدمىً، تجفافًا، وعدوى بكتيرية خطيرة.
- تلف الجلد، تساقط الشعر، وقرحات جلدية قد تؤدي إلى تدهور الحالة الصحية على المدى الطويل.
- زيادة خطر الإصابة بالسرطان بسبب الطفرات الجينية التي تحدثها الأشعة المؤينة.
- كما يمكن أن تؤثر الجرعات العالية جدًا على القلب، الدماغ، والرئتين، مما يسبب مضاعفات مميتة في غضون ساعات أو أيام.
إنكار حكومي ممنهج
يقول المهندس ياسر عبد المجيد، الخبير في شؤون الطاقة والبيئة، إن "نظام السيسي يعاني من فوبيا الظهور بمظهر الضعف أمام الرأي العام، الاعتراف بوجود خطر إشعاعي حتى وإن كان ضعيفًا، سيتطلب إعلان خطة طوارئ وإجراءات صحية، وهو ما لا يريد النظام الخوض فيه".
ويضيف عبد المجيد: "النظام الذي عجز عن شفافية بيانات كورونا في 2020، ويتعمد تغييب الحقائق عن انهيارات البنية التحتية، من غير المنطقي أن نصدّق بياناته حول قضية نووية معقدة".
غياب بيانات مستقلة وانعدام الثقة الشعبي
لم تنشر هيئة الرقابة النووية في مصر أي بيانات مباشرة أو رسوم بيانية للرصد الإشعاعي في الأيام التي أعقبت الهجوم على أصفهان، رغم أن البروتوكولات الدولية، حسب اتفاقية الأمان النووي (1994)، توصي بعلنية المعلومات البيئية، كما أن الموقع الرسمي للهيئة لم يُحدّث منذ مارس 2025، ما يعزز الشكوك حول مصداقية التصريحات الحكومية.
واستشهد الباحث سامي الجندي، في تقرير لمنظمة "عين على البيئة"، بأن "مصر لا تملك إلا 17 محطة مراقبة إشعاعية موزعة بشكل غير منتظم، وتفتقر للتمويل الكافي، مما يجعل إمكانية التقاط أي تغيّر محدود".
هل نحن أمام خطر حقيقي أم افتعال للذعر؟
الخبراء لا يجزمون بخطر مباشر على المصريين في الوقت الراهن، لكنهم يجمعون على أن الإنكار الرسمي وغياب الشفافية هما الخطر الأكبر، فالمشكلة لا تكمن فقط في ما إذا وصل الإشعاع فعليًا، بل في عدم وجود استعداد حقيقي لمواجهة مثل هذا السيناريو.
وفي ظل حكم السيسي، الذي اتُّهم مرارًا بقمع المعلومة وتهميش الكفاءات العلمية، تبدو مصر عرضة ليس فقط للأخطار البيئية، بل لما هو أخطر؛ غياب دولة مؤسسات حقيقية.
سواء ثبت وجود الإشعاع أم لا، فإن طريقة تعامل الحكومة المصرية مع الحادثة تكشف فشلًا بنيويًا في الاستجابة للأزمات، وتثير مخاوف أعمق حول مدى مصداقية البيانات الرسمية، ومع انعدام الثقة في نظام يرى في الاعتراف بالأخطاء تهديدًا وجوديًا، يبقى المواطن المصري هو المتضرر الأول من أي كارثة، سواء كانت إشعاعية أو سياسية.