ممدوح الولي

خبير اقتصادي ونقيب الصحفيين سابقًا

 

في عام 1900، قام البنك الأهلي المصري بتأسيس شركة التأمين الأهلية، التي اقتصر نشاطها في البداية على تأمينات الحريق، وهو ما يعني أن ممارسة نشاط التأمين ضد الحريق قد بلغ عمره حوالي 125 عاما حتى الآن، والذي تعزز تاريخيا بإنشاء شركة الإسكندرية للتأمين عام 1928، والشرق للتأمين عام 1931، ومصر للتأمين عام 1934.

وصدر قانون للإشراف والرقابة على هيئات التأمين عام 1939، يحظر على أية جهة ممارسة نشاط التأمين إلا إذا كانت مسجلة لدى وزارة المالية، وقيامها بإيداع ضمان لدى أحد البنوك المعتمدة عن كل قسم من أنواع التأمينات التي تمارسه، وتقديم الشركة الميزانية وحساب الأرباح والخسائر لوزارة المالية كل سنة، وإلزام كل من يزاول مهنة السمسرة بالتأمين أن يقيد اسمه بسجل بوزارة المالية.

وهكذا طمأنت نصوص القانون المتعاملين بفروع التأمين، ومنها فرع الحريق، على حفاظ شركات التأمين على أموالهم، خاصة حين عاقب بالحبس لمدة لا تتجاوز شهرا، والغرامة لكل من يعرض “بوالص” تأمين دون أن يكون مسجلا بوزارة المالية.

لكن نشاط التأمين على الحريق وغيره من أنواع التأمين لم يجد قبولا واسعا من جموع المصريين، لأسباب عديدة، منها ضعف الوعي التأميني، والإلمام بفروعه ومزاياه، وضعف الحالة المادية لغالبية المصريين، مما اعتُبر معه التأمين نوعا من الرفاهية، وشبهة مخالفة التأمين للشريعة، وجاءت شركات التأمين التكافلي التي تحتوي على لجنة للرقابة الشرعية تتابع التزام عملها بقواعد الشريعة لحل تلك المشكلة، التي دخلت مصر عام 2002، وتزايد عددها حتى بلغ عشر شركات حاليا، تمارس أربع منها نشاط التأمين على الحياة، وستة نشاط التأمين على الممتلكات، والتي تضم فروع الحريق، والبحري، والطيران، والسيارات، والهندسي، والبترولي، والائتمان، والحوادث، والطبي.

 

8 مليارات جنيه لأقساط تأمين الحريق

إلا أن تراجع المستوى المعيشي لعموم المصريين بسبب الغلاء زاد من صعوبة تخصيص مبالغ لدفع قيمة وثائق التأمين، وتعلل البعض بما يُتداول عن تأخر صرف التعويضات في حالة تحقق الخطر التأميني، حيث تقوم الشركات باستثمار أموال التعويضات لبعض الوقت، كما أنها تعدّ تلك المصروفات على حساب أرباحها، مما دفع البعض للشكوى إلى اتحاد التأمين، وإلى المحاكم للحصول على التعويضات، وأذكر أن أحد رجال الأعمال وقف بمؤتمر للتأمين شاكيا بأن صرف التعويضات يحتاج إلى “واسطة”.

وتشير بيانات التقرير السنوي للتأمين إلى أن مجموع أقساط التأمين التي دفعها أصحاب وثائق التأمين ضد الحريق بالعام المالي 2023/2024 كآخر بيانات معلنة، بلغ 8.268 مليارات جنيه بنسبة نمو 53% عن العام المالي السابق، وبالرجوع إلى أرقام أقساط التأمين ضد الحريق بالسنوات العشرين الأخيرة، نجد أن الرقم شهد تصاعدا مستمرا بتلك السنوات، حيث بدأ بنحو 343 مليون جنيه قبل عشرين عاما، واستمر بالصعود بلا توقف حتى العام المالي المذكور.

وعلى الجانب الآخر، بلغت قيمة التعويضات التي دفعتها الشركات الاثنتان والعشرون التي تمارس نشاط التأمين ضد الحريق 1.530 مليار جنيه بالعام المالي 2023/2024، وبالرجوع إلى قيمة التعويضات التي سددتها شركات التأمين للمتضررين من الحرائق، نجد أن الرقم، الذي بلغ 88 مليون جنيه قبل عشرين عاما، قد تذبذبت قيمته السنوية ما بين الصعود والهبوط، لتبلغ 701 مليون جنيه بالعام المالي 2011/2012، وانخفضت إلى 376 مليونا عام 2013/2014، واستمرت بالتذبذب لتبلغ 2.251 مليار جنيه عام 2018/2019، ثم عادت للتذبذب بالسنوات التالية.

 

التضخم سبب رئيس لنمو الأقساط

وعادة ما تزهو هيئة الرقابة المالية بمعدلات نمو الأقساط والتعويضات لنشاط الحريق، فها هي قيمة أقساط التأمين على الحريق تقفز من أقل من 2 مليار جنيه بالعام 2016/2017، لتتخطى الثلاثة مليارات منذ عام 2019/2020، ثم تتخطى الخمسة مليارات بالعام 2022/2023، ثم الثمانية مليارات بالعام المالي التالي، إلا أن غالبية النمو في قيمة الأقساط لا يعود فقط إلى زيادة عدد وثائق التأمين ضد الحريق، بل إلى تأثره بزيادة معدلات التضخم وتراجع قيمة الجنيه المصري أمام الدولار الأمريكي، مما زاد من تكلفة التعويضات، الأمر الذي دفع شركات التأمين لزيادة قيمة القسط للوثيقة.

ولأن تقرير هيئة الرقابة المالية لا ينشر عدد وثائق التأمين ضد الحريق وأعدادها من حيث شرائح القيمة، فلا يوجد برهان واضح على أن زيادة قيمة الأقساط تشير إلى زيادة عدد الوثائق، خاصة مع اختلاف قيمة الوثيقة باختلاف صاحبها، حيث إن قيمة التأمين ضد الحريق في شركة بترول أو مصنع تعادل قيمة عشرات وربما مئات الوثائق لدى صغار المتعاملين الذين يؤمنون ضد الحريق على منشآتهم الحرفية البسيطة، أو أجهزتهم المنزلية.

إلا أن الملاحظ بالعشرين عاما الأخيرة أن قيمة الأقساط كانت دائما أعلى من قيمة التعويضات التي سددتها شركات التأمين للمتضررين، حتى إن نسبة قيمة التعويضات إلى قيمة الأقساط التي حصلت عليها شركات التأمين كانت أقل من 20% في سنوات عديدة، وهو ما يشير إلى المكاسب التي تحققها شركات التأمين من نشاط الحريق، خاصة وأن شركات التأمين تقوم بمعاينة مسبقة للمكان المطلوب تأمين الحريق به حتى توافق على إصدار الوثيقة، كما ترفض التأمين للأماكن المزدحمة مثل سوق الرويعي بالعتبة، الذي تعرض للحريق مرات عدة.

 

البيانات تسهم في سد الفجوة التأمينية

ورغم تناول التقرير السنوي لإحصاءات التأمين للتأمين على الحريق بصفحات عدة، إلا أن مضمونها فني وموجه للمتخصصين بصناعة التأمين، بحيث لا يستطيع غيرهم فك طلاسمها، خاصة مع غياب شرح للمصطلحات الفنية كما تفعل التقارير الدولية، لتظل بيانات كثيرة للتأمين ضد الحريق غائبة عن الإعلام الاقتصادي، بل والإعلام التأميني، حيث لا يوجد ذكر لعدد الوثائق موزعة حسب المحافظات، وحسب نوعية الشركات، وكم منها جديد؟ وكم منها تم تجديده؟ وكم منها من خلال التأمين متناهي الصغر؟

فالتبويب الذي يسير عليه التقرير لم يتغير منذ أكثر من عشرين عاما، وبالتالي لا يرد على الكثير من التساؤلات، خاصة عند المقارنة بالبيانات التي ينشرها جهاز الإحصاء الحكومي سنويا عن الحرائق، حيث لوحظ أن قيمة التعويضات التي سددتها شركات التأمين للمتضررين من الحرائق كانت أقل كثيرا من قيمة التلفيات بسبب الحرائق التي ذكرها جهاز الإحصاء بالسنوات من 2001 وحتى 2008، وتحولت الصورة للعكس منذ عام 2014 وحتى 2021، حين توقف جهاز الإحصاء عن إعلان قيمة التلفيات بسبب الحرائق.

ويلاحظ وجود علاقة غير متسقة بين تطور عدد الحرائق السنوية التي يعلنها جهاز الإحصاء، وقيمة التعويضات التي تسددها شركات التأمين بتلك السنوات، ففي عام 2010 ارتفع عدد الحرائق لأكثر من 51 ألف حريق، بينما انخفضت قيمة التعويضات إلى 296 مليون جنيه خلال العام. كذلك العلاقة بين قيمة التلفيات بسبب الحريق حسب جهاز الإحصاء وبين قيمة التعويضات، مثلما حدث عام 2019، ببلوغ قيمة التلفيات 523 مليون جنيه، بينما بلغت التعويضات 2.3 مليار جنيه.

لذا، مطلوب بيانات عن تأمين الحريق تلبي حاجة المجتمع الاقتصادي للتعرف إلى الفجوة التأمينية في مجال الحريق، جغرافيا واقتصاديا، حتى يمكن السعي لتضييقها حرصا على تلك الممتلكات والأرواح، وضمانا لمساهمة تعويضات الحريق في سرعة عودة المصانع والمتاجر والمنازل المتضررة إلى نشاطها بأقرب وقت.