د. محمد الصغير

رئيس الهيئة العالمية لأنصار النبي ﷺ، وعضو مجلس الأمناء بالاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.

 

بعد مرور أكثر من عشرين شهرا على حرب الإبادة في غزة، وإعمالا لقاعدة فقه الميزان من خلال كفتيه الشرعية والقانونية، ظهرت الأمة الإسلامية على صورة من الضعف والعجز، ليس لها مثيل في تاريخها الممتد، ولو كانت تدرك حجم الفضوح الذي انكشف بعد سقوط ورقة التوت التي كانت تتستر بها، لسعت إلى إيقاف الحرب أو إغاثة الأشقاء، ولو من باب الحفاظ على الشكل العام، وعدم الظهور بمظهر من لا يملك من الأمر شيئا!

إذا وضعنا في الكفة الأولى بعض نصوص الشريعة سنجد نتيجة مريعة، والبداية مع فقه الجهاد، وهو المصطلح الإسلامي للحرب والقتال، وينقسم إلى قسمين:

الأول: جهاد الطلب وهو من وسائل الدعوة الإسلامية، يعبد طريقها ويذلل مسالكها، ويزيح العوائق التي تعترض مسيرتها، وهو ماض إلى يوم القيامة، ويأتي في مقدمة أولويات الدولة الإسلامية، ذكر الإمام ”القرطبي” في تفسيره: “فرض على الإمام إغزاء طائفة إلى العدو كل سنة مرة، يخرج معهم بنفسه، أو يولي عليهم من يثق به، ليدعوهم إلى الإسلام ويرغبهم، ويكف أذاهم ويظهر دين الله عليهم»، وذكر “الدمياطي” في “كتاب الجهاد”: «أن ترك الجهاد في جميع السنين، والإعراض عنه، والسكون إلى الدنيا خروج من الدين». وهذا ما قرره القرطبي في «الجامع لأحكام القرآن» (8/152).

ثانيا: جهاد الدفع وهو ما يتطلبه الحال لرد الصائل أو دفع العدوان عن بلاد المسلمين أو مقدراتهم، كما جاء في «الفتاوى الكبرى لابن تيمية» (5/539): “وإذا دخل العدو بلاد الإسلام فلا ريب أنه يجب دفعه على الأقرب فالأقرب، إذ بلاد الإسلام كلها بمنزلة البلدة الواحدة، وأنه يجب النفير إليه بلا إذن والد ولا غريم”.

وقال القرطبي في «الجامع لأحكام القرآن» (8/152): “إذا تعين الجهاد بغلبة العدو على قطر من الأقطار، أو بلوغه العقر، فإذا كان ذلك، وجب على جميع أهل تلك الدار أن ينفروا ويخرجوا إليه خفافًا وثقالًا، شبابًا وشيوخًا، كل على قدر طاقته، من كان له أب بغير إذنه، ولا يتخلف أحد يقدر على الخروج، من مقاتل أو مكثر، فإن عجز أهل تلك البلدة عن القيام بعدوهم كان على من قاربهم وجاورهم أن يخرجوا على حسب ما لزم أهل تلك البلدة، حتى يعلموا أن فيهم طاقة على القيام بهم ومدافعتهم، وكذلك كل من علم بضعفهم عن عدوهم وعلم أنه يدركهم ويمكنه غياثهم لزمه أيضًا الخروج إليهم، فالمسلمون كلهم يد على من سواهم ولو قارب العدو دار الإسلام ولم يدخلوها لزمهم أيضًا الخروج إليه، حتى يظهر دين الله وتحمى البيضة وتحفظ الحوزة ويخزى العدو، ولا خلاف في هذا”. أ.ه‍

 

في الكفة الأخرى لم ينجح أحد

ولا يتوقف أمر الدفاع والحماية على المسلمين وحدهم، وإنما ينسحب الحكم نفسه على من عاهدهم، أو دخل في جوارهم، كما حدث مع عمرو بن سالم الخزاعي حليف المسلمين، لما استنجد برسول اللهﷺ ضد قبيلة بكر حليفة قريش، والتي أمدتها وساندتها في مواجهة قبيلة خزاعة، فأجاب رسول اللهﷺ حليفه “المشرك” بقوله: “نصرت يا عمرو بن سالم”، وروى أبو يعلى بسند جيد عن عائشة -رضي الله عنها- قالت : لقد رأيت رسول اللهﷺ غضب مما كان من شأن بني كعب غضبا لم أره غضبه منذ زمان، وقال : لا نصرني الله -تعالى- إن لم أنصر بني كعب” أي خزاعة، وروى عبد الرزاق وغيره عن ابن عباس- رضي الله تعالى عنهما- أن رسول اللهﷺ لما بلغه خبر خزاعة قال : “والذي نفسي بيده لأمنعنهم مما أمنع منه نفسي وأهلي وبيتي”.

وقضية الأحلاف معروفة من قديم، وصورها في العصر الحديث متعددة، فكل من تجمعهم مصلحة أو يتخوفون خطرا معينا يتكتلون ضده، كما في حلف وارسو، وصورة حلف الناتو، ولا يوجد للأمة الإسلامية حلف فعال أو تكتل فاعل، يستطيع عمل شيء ملموس على الأرض، ولو كان لرأينا أثرا لذلك خلال الإبادة الجماعية والحصار المفروض بقوة السلاح على غزة وأهلها، وقد أثبت القرٱن الكريم للكفار وحدة الصف وتجمعهم على الباطل “وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً ۚ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ” (التوبة-36)

وبالعودة إلى فقه الميزان نجد ما قرره القرآن، حيث الكفار في كفة واحدة يظهر فيها قتال الكافة، فأمريكا تقود الحرب، وبريطانيا تستطلع من الجو، وألمانيا غواصاتها في البحر، وفرنسا جنودها على الأرض، والهند توفر الإمدادات والمؤن، والقائمة تطول…..، وفي الكفة الأخرى لم ينجح أحد، ولم يتقدم أو يتكتل أحد، مع أن الله وعدهم بمعيته: “واعلموا أن الله مع المتقين” قال الإمام الطبري: «أما {كَافَّةً} فجميعٌ وأمرُكم مُجْتَمِعُ …. “وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ”. فإن معناه: واعْلَموا أيُّها المؤمنون بالله أنكم إن قاتلتم المشركين كافَّةً، واتَّقَيْتُم الله، فأَطَعْتُموه فيما أمركم ونَهاكم، ولم تُخالفوا أمره فتَعْصُوه، كان الله معكم على عدوِّكم وعدوِّه من المشركين، ومَن كان الله معه لم يَغْلِبْه شيءٌ؛ لأن الله مع مَن اتَّقاه، فَخافَه وأطاعَه فيما كَلَّفَه مِن أمره ونهيه» (تفسير الطبري 11/448).

وجاء في حديث الصحيحين: “ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم، فمن أخفر مسلما فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا”. وقد بوب على هذا البخاري في صحيحه فقال: باب: “ذمة المسلمين وجوارهم واحدة يسعى بها أدناهم”.

وعند أحمد وغيره من رواية عمرو بن شعيب: “المسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، ويجير عليهم أقصاهم، وهم يد على من سواهم”. قال الإمام الخطابي في الاستذكار: “وقوله (وهم يد على من سواهم) فإن معنى اليد: المعاونة والمظاهرة، إذا استنفروا وجب عليهم النفير، وإذا استنجدوا أنجدوا، ولم يتخلفوا ولم يتخاذلوا”.

 

الذين يدينون بالقانون

طول معركة طوفان الأقصى، وهمجية العدوان الصهيوني في إهلاك الحرث والنسل، وانتهاج سياسة التركيع بالتجويع، جعل المسؤولية تطول الجميع، وعلى كل واحد منا السعى في فكاك نفسه، حتى لا يبعث يوم القيامة خصيما لهؤلاء المحاصرين، الذين يموتون كمدا، كلما رأوا أولادهم يموتون من عضة الجوع ونقص التغذية، ولنعرض أنفسنا على ميزان رسول اللهﷺ حيث قال: “من مات ولم يغزُ، أو تحدثه نفسه بالغزو، مات على شعبة من النفاق” (رواه مسلم).

وعَنْ أَبِي أُمَامَةَ عَنْ النَّبِيِّﷺ قَالَ: “مَنْ لَمْ يَغْزُ، أَوْ يُجَهِّزْ غَازِيًا، أَوْ يَخْلُفْ غَازِيًا فِي أَهْلِهِ بِخَيْرٍ، أَصَابَهُ اللَّهُ بِقَارِعَةٍ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ” (صحيح أبي داود).

أما الذين يدينون بالقانون ويتحاكمون إلى الدستور، فنضع لهم في الكفة الأخرى، القانون الذي يلزم كل الدول العربية بالتدخل في غزة، ولا يحق لأي دولة أو منظمة دولية أن تمنعهم من التدخل ضد جيش الاحتلال والإبادة، فمنذ 75 عاماً وبالتحديد سنة 1950م وقعت الدول العربية معاهدة الدفاع المشترك بين دول الجامعة العربية، حيث نصت المعاهدة في بندها الأول: “تعتبر الدول المتعاقدة أن أي اعتداء مسلح على أي منها، هو اعتداء على جميع الدول العربية، وتتعهد بالتعاون للدفاع المشترك، ورد العدوان بكل الوسائل الممكنة، بما في ذلك القوة المسلحة.

هل سيبقى الصمت سيد الموقف، والعجز عنوان المرحلة، التي سيكتب عنها التاريخ بأن أهل غزة تفاقمت أزمتهم حتى بلغت قماش الأكفان، فأصبحوا لا يجدون ما يكفنون به موتاهم؟ ألا ما أثقل الخذلان في الميزان.