خلال مؤتمر صحفي مشترك مع الرئيس الأوغندي، قال عبد الفتاح السيسي إن "تفريط مصر في حصتها من مياه النيل يعني تخليها عن حياتها، ومن يعتقد أننا سنغض الطرف عن حقوقنا المائية فهو مخطئ".
هذه التصريحات القوية قد تبدو للوهلة الأولى تعبيرًا عن موقف وطني صارم، لكنها عند وضعها في سياق تطور ملف مياه النيل خلال السنوات الماضية، تكشف مفارقة صارخة: فالرجل الذي يتحدث اليوم عن صون الحقوق المائية هو نفسه الذي وقّع في 2015 على ما يعرف بـ اتفاق إعلان المبادئ مع إثيوبيا والسودان، وهو الاتفاق الذي يعتبره خبراء القانون الدولي والسياسة المائية أكبر تنازل مصري في تاريخ نهر النيل.
من وضع تفاوضي قوي إلى أزمة غير مسبوقة
قبل 2011، ورغم الخلافات المزمنة مع دول المنبع، كانت مصر تملك أوراق قوة استراتيجية:
- اتفاقية 1959 مع السودان التي ضمنت لمصر 55.5 مليار متر مكعب سنويًا من مياه النيل.
- الاعتماد القانوني على اتفاقيات الحق التاريخي الموروثة من الحقبة الاستعمارية، والتي كانت تمنع أي مشروعات كبرى على مجرى النهر دون موافقة القاهرة.
- التحالفات الأفريقية التقليدية مع السودان ودول حوض النيل عبر منظمة حوض النيل.
لكن منذ تولي السيسي السلطة، تراجع الموقف المصري تدريجيًا، خاصة بعد توقيع إعلان المبادئ في الخرطوم في مارس 2015، والذي منح إثيوبيا اعترافًا رسميًا غير مسبوق بسد النهضة، وفتح الباب أمام استكماله دون التزامات واضحة تضمن حصة مصر.
إعلان المبادئ نقطة التحول الكارثية
اتفاق 2015 جاء بعد أربع سنوات من التفاوض المتعثر. بينما كانت حكومة ما قبل السيسي -وحتى حكومة ما بعد 2013 مباشرة- تتحدث عن وقف البناء أو ربط استكمال السد باتفاق ملزم، جاء إعلان المبادئ ليغير المعادلة.
أبرز التنازلات في الاتفاق:
- الاعتراف لأول مرة بحق إثيوبيا في بناء السد دون اعتراض مبدئي.
- غياب أي نص صريح يضمن حصص المياه التاريخية لمصر.
- الاكتفاء بعبارات فضفاضة عن "الاستخدام المنصف والمعقول".
- ترك مسائل التشغيل والملء لتفاوض لاحق، مما أعطى إثيوبيا وقتًا ذهبيًا لاستكمال الإنشاءات حتى فرضت أمرًا واقعًا.
خبراء القانون الدولي أشاروا إلى أن هذا الاتفاق أضعف موقف مصر أمام أي محافل تحكيمية أو قضائية مستقبلية، لأنه أزال الأساس القانوني للاعتراض المبدئي على السد.
التصريحات المتناقضة… من الطمأنة إلى التحذير
منذ توقيع إعلان المبادئ وحتى بدء الملء الأول في 2020، كان السيسي يرسل رسائل طمأنة للرأي العام:
- في يونيو 2018، قال: "اطمئنوا، مياه النيل خط أحمر ولن يجرؤ أحد على المساس بها".
- في أكتوبر 2019، أضاف: "لن نقلل قطرة واحدة من مياه مصر".
لكن الواقع كشف أن إثيوبيا مضت في الملء الأول والثاني والثالث والرابع دون اتفاق ملزم، بينما اكتفت القاهرة بالبيانات الدبلوماسية، وبدعوات العودة للتفاوض.
تصريحات السيسي الأخيرة عن أن "التفريط في الحصة يعني التخلي عن الحياة" تأتي بعد أن أصبح الفعل الإثيوبي أمرًا واقعًا، وبعد أن فقدت مصر لأول مرة في تاريخها السيطرة على تدفق المياه من النيل الأزرق.
أول خسارة تاريخية للحصة المائية
في صيف 2022 و2023، ومع اكتمال مراحل الملء الثلاث الأولى، تأثرت مصر فعليًا بتراجع تدفق المياه، واضطرت إلى السحب المكثف من مخزون بحيرة ناصر لتعويض النقص.
هذا لم يكن أمرًا اعتياديًا، فحتى في سنوات الجفاف السابقة كانت الحصة التاريخية مضمونة بحكم الاتفاقات الدولية، أما الآن فأصبح التدفق رهينًا بقرارات إثيوبيا.
تقارير مائية غير رسمية أشارت إلى انخفاض ملحوظ في منسوب النيل في بعض الفترات الحرجة، ما أثر على الزراعة والري في مناطق واسعة.
فقدان الشرعية الأفريقية
واحدة من أكبر الإخفاقات في عهد السيسي في هذا الملف هي خسارة مصر لدعم جزء مهم من دول الاتحاد الأفريقي، خاصة دول حوض النيل.
فبدلًا من بناء تحالفات قوية، أدى التحرك المصري المتأخر والمحدود إلى:
- انحياز السودان -في فترات عديدة- إلى الموقف الإثيوبي.
- فتور المواقف من أوغندا وكينيا وتنزانيا، التي أصبحت ترى في سد النهضة مشروعًا إقليميًا للتنمية.
- قبول مصر بالوساطة الأفريقية التي قادها رئيس جنوب أفريقيا في 2020، والتي لم تسفر عن أي التزام إثيوبي، بينما منحت أديس أبابا مزيدًا من الوقت.
خطاب القوة مقابل واقع التنازلات
من يتابع تصريحات السيسي في المؤتمرات الدولية يجد لغة حادة عن "الخطوط الحمراء" و"حماية الحقوق المائية"، لكن حصيلة عشر سنوات من التفاوض تشير إلى:
- قبول الأمر الواقع الإثيوبي.
- نقل الملف من التدويل القوي إلى التفاوض البطيء.
- إهدار الفرصة الذهبية لوقف البناء أو ربطه باتفاق ملزم قبل اكتمال السد.
هذا التناقض بين الخطاب والفعل أدى إلى تآكل الثقة الشعبية في قدرة الدولة على حماية حقوقها المائية.
النتائج على الداخل المصري
الأزمة المائية ليست مجرد ملف سياسي، بل لها انعكاسات مباشرة على حياة المصريين:
- تراجع الرقعة الزراعية أو التحول إلى محاصيل أقل استهلاكًا للمياه، ما يؤثر على الأمن الغذائي.
- زيادة الاعتماد على إعادة استخدام مياه الصرف الزراعي، بما يحمله من مخاطر بيئية وصحية.
- ارتفاع تكلفة مشروعات تحلية المياه لتعويض النقص، وهي استثمارات ضخمة تتحملها الخزينة العامة.
الخبراء يحملون السيسي المسؤولية
قوى وشخصيات من الخبراء وشرفاء الوطن ترى أن السيسي يتحمل المسؤولية السياسية والقانونية عن الوضع الحالي، ليس فقط لأنه فشل في وقف المشروع الإثيوبي، بل لأنه منح اعترافًا رسميًا ببنائه دون مقابل، في وقت كانت فيه أوراق الضغط المصرية أقوى.
حتى بعض الأصوات التي كانت مؤيدة للنظام في البداية انتقدت علنًا توقيع إعلان المبادئ، واعتبرته "الخطأ الاستراتيجي الأكبر" في ملف مياه النيل منذ عقود.
وفي النهاية فإن تصريحات السيسي الأخيرة عن أن "التفريط في الحصة المائية يعني التخلي عن الحياة" صحيحة في مضمونها، لكنها تحمل مفارقة مؤلمة: فالسياسات التي اتبعتها حكومته منذ 2015 هي التي فتحت الباب لأول مرة في التاريخ أمام تقليص فعلي لحصة مصر، وأفقدت القاهرة مكانتها التفاوضية، بل وشرعنت سد النهضة الذي أصبح اليوم مصدر الخطر الأكبر على النهر.
الخطاب الحاد لا يغطي على واقع التنازلات، والنتيجة أن مصر وجدت نفسها أمام أمر واقع مائي جديد، بينما المواطن البسيط هو من سيدفع الثمن في الزراعة والغذاء والمياه.