أثار تصديق السيسي مؤخرًا على قانون "التصرف في أملاك الدولة الخاصة" موجة جديدة من الجدل، وسط مخاوف متزايدة من تفريط ممنهج في الأصول الوطنية.
القانون الجديد يأتي ضمن سلسلة من السياسات الاقتصادية التي اتبعتها الحكومة منذ الانقلاب العسكري عام 2013، والتي شملت بيع وتأجير ممتلكات الدولة، بما في ذلك الموانئ، الفنادق، والأراضي، تحت مبررات "تحقيق عوائد مالية" و"تقنين الأوضاع"، في وقت يرى فيه منتقدون أن هذه الخطوات تمثل تصفية تدريجية لمقدرات الدولة وتهديدًا لمستقبل الأجيال القادمة.
محتوى القانون: تسهيل البيع والتملك لمن استولى على أملاك الدولة
وفقًا لنص القانون الجديد، بات من الممكن التصرف في أملاك الدولة الخاصة من خلال:
- البيع
- الإيجار
- الإيجار المنتهي بالتمليك
- الترخيص بالانتفاع
مع أولوية لمن يملكون "أوضاع يد" أو أقاموا منشآت على أراضي الدولة قبل 15 أكتوبر 2023، ما يتيح تقنين أوضاعهم رسمياً مقابل دفع رسوم تحددها الجهات التنفيذية، دون العودة إلى البرلمان أو جهة رقابية مستقلة.
الأخطر في القانون هو منح المحافظين صلاحيات كاملة للتصرف في الأصول، دون إلزامهم بالإعلان عن المزادات أو اتباع آليات تسعير شفافة، ما يفتح الباب أمام صفقات مغلقة وشبهات محسوبية، بحسب مختصين.
نمط اقتصادي متكرر: التفريط في الأصول الاستراتيجية
يرى خبراء أن القانون الجديد لا يمكن فصله عن مسار اقتصادي اعتمدته الدولة خلال العقد الماضي، تمثل في التخلي عن أصول استراتيجية، ومنها:
- الموانئ: توقيع اتفاقات مع شركات إماراتية وسعودية لامتلاك أو إدارة موانئ كبرى مثل العين السخنة وسفاجا، دون الكشف عن تفاصيل العقود.
- الفنادق التاريخية: بيع أو تأجير فنادق تابعة للشركة القابضة للسياحة في الإسكندرية والأقصر لمستثمرين أجانب.
- قطاع الطاقة: توقيع اتفاقيات لاستيراد الغاز من إسرائيل، رغم الإعلان سابقًا عن الاكتفاء الذاتي بعد اكتشاف حقل "ظهر".
- الأراضي والعقارات: بيع مساحات شاسعة في العاصمة الإدارية والعلمين لشركات أجنبية، بأسعار يعتبرها اقتصاديون أقل من القيمة السوقية.
تداعيات اقتصادية مقلقة
خبراء الاقتصاد يحذرون من أن التفريط في الأصول العامة بهذه الطريقة يترتب عليه مخاطر عدة، أبرزها:
- فقدان السيطرة على الموارد: حيث تُدار أصول استراتيجية من قبل أطراف خارجية قد لا تضع الأمن القومي المصري في أولوياتها.
- انخفاض الإيرادات طويلة الأجل: تحويل أصول مدرة للدخل إلى مبالغ فورية تُستخدم غالبًا في سداد الديون أو سد عجز مؤقت.
- إضعاف الاستثمار المحلي: تقديم امتيازات للمستثمرين الأجانب يخلق مناخًا تنافسيًا غير عادل، يحد من فرص القطاع الخاص المحلي.
قانون يُشرعن التعدي على أملاك الدولة
في حين يفترض أن يكون القانون وسيلة لاسترداد أراضي الدولة من المتعدين، يرى مراقبون أنه يمنحهم غطاءً قانونيًا لتقنين أوضاعهم.
فبدلًا من المحاسبة، يمنح القانون المعتدين تسهيلات تصل إلى ست سنوات لاستكمال الإجراءات، دون معايير واضحة لتحديد المخالفات أو طرق التعامل معها.
أزمة مالية تُستخدم كذريعة
الحكومة تبرر هذه السياسات الاقتصادية بوجود عجز كبير في الموازنة وارتفاع في فاتورة خدمة الدين الخارجي، والتي قد تصل، بحسب البنك المركزي، إلى 25.97 مليار دولار في 2026.
غير أن منتقدين يشيرون إلى أن بيع الأصول الثابتة لسداد التزامات مؤقتة هو مسار محفوف بالمخاطر، لأن تلك الأصول لا يمكن تعويضها، في حين أن الديون غالبًا ما تتجدد بفوائد أكبر.
غياب الشفافية: لا بيانات ولا رقابة
من أبرز أوجه القلق المرتبطة بالقانون الجديد أنه يأتي في ظل غياب تام للشفافية:
- لا تُنشر أسعار البيع أو الإيجار الفعلية.
- لا تُكشف تفاصيل العقود المبرمة مع الشركات الأجنبية أو المحلية.
- لا توجد رقابة برلمانية أو شعبية فعالة على القرارات.
هذا الغموض يعزز الشكوك حول وجود شبهات فساد أو سوء إدارة، ويفقد المواطنون ثقتهم في أن هذه السياسات تخدم المصلحة العامة.
في النهاية هل تُباع الأصول الوطنية لإنقاذ اللحظة على حساب المستقبل؟
تصديق السيسي على قانون التصرف في أملاك الدولة الخاصة يُعد، برأي اقتصاديين، نقطة تحول حاسمة في مسار التعامل مع الأصول الوطنية.
فبدلًا من الحفاظ على الموارد الاستراتيجية، تتجه الدولة إلى تصفية ممتلكاتها تدريجيًا، في وقت تعاني فيه من أزمة اقتصادية خانقة.
في النهاية، فإن الاعتماد على بيع الأصول لسد العجز ليس حلًا مستدامًا، بل تأجيل للأزمة، على حساب حرمان الأجيال القادمة من مقومات اقتصادية قد تشكل طوق النجاة في أوقات الشدة.