محمد فخري
كاتب وصحفي مصري
ارتفعت نغمة ضرورة استئصال المقاومة، واستنكار وجودها من الأساس سواء كفكرة أو كحركة داخل المنطقة العربية، ولقد وُحدت النغمة وتكررت حتى سيطرت على الأسماع، حتى بات الأمر وكأنه من المسلّمات، رغم أن الوقائع على الأرض تشير إلى عكس ذلك تماما.
ولا غرابة في ذلك، فأدوات الخيانة تبقى مستترة كامنة مترددة الصوت حتى تأتي أوقات الشدة وساعات الزلزلة، وفي ذروة المحنة تكشف ملامح وجهها القبيح، وتتصاعد بوقاحة وصخب أصوات التثبيط والخذلان والدعوة إلى إعلان الهزيمة، حتى يظن بعض العامة أن الوقت وقت الهزيمة والاستسلام، وأن أهل الحق والتضحية على باطل، وحتى يقول أهل المقاومة ومن معهم: {متى نصر الله؟ ألا إن نصر الله قريب}.
لكن يبقى التساؤل المطروح: هل من المنطقي أن يتزامن تشويه المقاومة وازدرائها مع زيادة معاناة أهل غزة؟! أليس الاحتلال هو الأولى بتلك المكانة؟ وهل منطقي أيضا أن تأتي الاتهامات الرسمية متزامنة مع ارتفاع حجم مساندة الشعوب في دول العالم جميعها لحق غزة في المقاومة؟!
لا بد أن نعترف أن دوائر الحكم إقليميا وعالميا أضحت تسير عكس تيار شعوبها، فمعظم وسائل الإعلام فيما يخص غزة تتجاهل أساسا فكرة حق الشعوب المحتلة في المقاومة والتحرير.
ولا يخفى على أحد أن موقف المجتمع الدولي من حق المقاومة في أوكرانيا، وموقفه من المقاومة في الأراضي الفلسطينية، يفضح ازدواجية المعايير لدى النظام العالمي الحالي.
فالأنظمة الغربية التي حشدت ونادت بالمقاومة في أوكرانيا، باتت تدعو عبر مبادرات مريبة إلى اقتلاع المقاومة من غزة واجتثاثها من لبنان. أحرام على بلابله الدوح… حلال للطير من كل جنس؟! فهل نسي العالم إلى أي حد ترتبط عقيدة المسلمين وحضارتهم بالمقاومة والجهاد لحماية الأرض والعرض وإقامة العدل في الأرض؟ وهل يُكتب التاريخ لطي أوراقه بين الأدراج؟!
إذن فمن يقاوم إذا لم يقاوم المسلمون؟!
الصدمة ومحو الذاكرة
ينتهز البعض أوقات الصدمة من هول ويلات الحروب، وما يصحبها من فقدان مؤقت للذاكرة، فيبدأ ببث مفاهيم جديدة تخالف أصول الأشياء وتاريخها، والدليل على ذلك التعامل مع المقاومة (لا الاحتلال) باعتبارها مصدرا للكوارث، وليس حقا من أدنى الحقوق المشروعة.
والتعامل أيضا مع المقاومة باعتبارها جسما غريبا على الإسلام والمسلمين يجب التخلص منه، وإقرار واقع مستسلم جديد دون أي مقاومة للاحتلال، وخضوع كامل للسيطرة الإمبريالية.
وكأن البلاد بلا تاريخ ولا حضارة ولا دين ولا هوية راسخة يشغل فيها الجهاد والمقاومة ركنا أصيلا لا يمكن تجاهله.
فكما يقول الكاتب الفلسطيني يوسف الطويل: «ثقافة المقاومة في المجتمعات الإسلامية ثقافة راسخة رسوخ العقيدة فيها.. فنحن أمة قاتلت خصومها في معظم الأحيان وهي الأقل عدة وعددا، ومع ذلك خرجت منتصرة في معظم الأحيان».
ولذلك لا يمكن لعاقل فصل مقاومة أي احتلال في المنطقة العربية عن الإسلام دينا وحضارة وثقافة وتاريخا، ولا يخفى على الباحثين أن التاريخ الإسلامي لم يحتفِ بأحد قدر احتفائه بالمقاومين والمجاهدين والشهداء.
ولا غرابة في أن المسلمين دون غيرهم منذ صدر الإسلام وحتى الآن يحرصون على الدعاء للمجاهدين والمقاومين بالنصر صباحا ومساء في صلاة الفرد والجماعة، كما ظل المسلمون لقرون طويلة يوقفون أموالهم ويقدمون الدعم المادي والمعنوي للمقاومين والمجاهدين، كوسيلة للمشاركة في الجهاد.
وخلاصة القول هي أن الجهاد في الإسلام هو جزء لا يتجزأ من الشريعة الإسلامية، ومفهومه كبير، يبدأ من ميدان النفس، وينتهي بميدان تلاحم الجيوش في سبيل الله والدين والوطن.
ولا يتسع المقام هنا لذكر الآيات والأحاديث النبوية التي تلزم كل مسلم بضرورة السعي لإحقاق الحق، وتأمر بالجهاد وإقامة العدل في الأرض، ودفع الظلم والعدوان، واستعادة الحقوق المسلوبة، إضافة إلى حماية المقدسات الإسلامية من الاعتداء والانتهاك.
هل الغرب يصدق ما يردد؟
ومن الضروري هنا الإشارة إلى أن دوائر صنع القرار في الغرب ووسائل إعلامه وحلفائه المحليين في المنطقة، لا يصدقون ما يحرصون على ترديده وترويجه على مدار الساعة، فالكل يعلم أنه لا يمكن اجتثاث المقاومة من الشعوب المسلمة إلا بمفارقة الحياة.
فكما قال “الجنرال” بيجو القائد العسكري الفرنسي في الجزائر: «إن العرب لن يكونوا لفرنسا إلا حينما يصبحون مسيحيين»، والخلاصة أن الغرب يعلم جيدا أنه ستبقى المقاومة ما بقي الإسلام.
والغرب أيضا أدرى بالتاريخ الذي اندحرت فيه موجات وموجات من جيوش الصليبيين والمستعمرين، حتى تحول الشرق الإسلامي -كما يقول الدكتور محمد عمارة- إلى مقبرة موجات وإمبراطوريات الغزاة الغربيين.
وربما يوضح نص التحقيقات مع المجاهد عمر المختار بعد أسره كيف أن الإسلام هو مصدر إلهام للمقاوم، ومادة فكرية وروحية تعزز الصمود والمقاومة في مواجهة الظلم والاحتلال.
فلقد سأل قائد الجيش الإيطالي في ليبيا ووزير الدفاع فيما بعد، “الجنرال” رودولفو غراتسياني، الشيخ المجاهد عمر المختار أثناء التحقيق معه بعد الأسر: لماذا حاربتَ الحكومة الفاشية بشدة متواصلة؟
قال المختار: لأن ربي يأمرني بذلك.
فسأله الجنرال غراتسياني: هل كنت تأمل في يوم من الأيام أن تطردنا من برقة، وإمكانياتك الضئيلة وعددك القليل؟ فأجاب المختار: لا، هذا كان مستحيلا.
غراتسياني: إذن ما الذي كان في اعتقادك الوصول إليه؟
المختار: طردكم من بلادي لأنكم مغتصبون، أما الحرب فهي فرض علينا، وما النصر إلا من عند الله.
فرد عليه غراتسياني: لكن كتابك (القرآن) يقول: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}.
رد عليه عمر المختار: نعم.. ولكن كما قلتُ لك من أجل وطني وديني!
رد غراتسياني: أنت تحارب من أجل المنظمة السنوسية، وتلك المنظمة التي كانت السبب في تدمير الشعب والبلاد على السواء، وفي الوقت نفسه كانت تشغل أموال الناس دون حق، وهذا الحافز الذي جعلك تحاربنا، لا الدين والوطن كما قلت.
هنا نظر عمر المختار نظرة حادة إلى غراتسياني، وقال: لست على حق فيما تقول، ولك أن تظن كما ظننت، ولكن الحقيقة الساطعة التي لا غبار عليها أنني أحاربكم من أجل ديني ووطني لا كما قلت… وبعد حوار طويل أجاب عمر المختار بقوله تعالى: {قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا}.