شهدت الأوساط القضائية مؤخراً جدلاً واسعاً وحالة من الاحتقان غير المسبوق، إثر تخريج دفعة جديدة من المعينين في النيابة العامة بعد استكمالهم دورة تأهيل عسكرية بالأكاديمية العسكرية استمرت ستة أشهر، وشملت تدريبات على استخدام السلاح والرياضات العنيفة ومهارات الاصطفاف، إضافة إلى محاضرات في الأمن القومي والشؤون الحربية.
المشهد الذي جرى في الرابع والعشرين من يوليو الماضي، بحضور وزير العدل المستشار عدنان فنجري والنائب العام المستشار محمد شوقي عياد، أثار عاصفة من الغضب في صفوف القضاة، انعكست في تعليقات ساخطة على المجموعات الخاصة بهم عبر موقع "فيسبوك". حيث رأى كثيرون أن ما جرى يمسّ استقلال السلطة القضائية، ويضع القضاة الجدد في موقع تبعية مباشرة ورمزية للمؤسسة العسكرية، الأمر الذي يهدد حيادهم ويشوّه صورة القضاء.
خلفية القرار الحكومي
تعود جذور هذه الأزمة إلى قرار أصدره مجلس الوزراء في 22 إبريل 2023، قضى بإلزام جميع المعيّنين في جهات الدولة المختلفة، ومن بينهم القضاة، باجتياز دورة تدريبية في الأكاديمية العسكرية مدتها ستة أشهر، باعتبارها شرطاً للتعيين. ومنذ ذلك الحين، تم تطبيق الشرط على دفعات الأعوام 2023 و2024 و2025.
ورغم إصرار الحكومة على أن الهدف من هذه الدورات هو "تعزيز الانضباط والوعي الوطني والأمني"، فإن غالبية القضاة اعتبروا الأمر محاولة لإخضاع القضاء تدريجياً لهيمنة المؤسسة التنفيذية والعسكرية، بما يتناقض مع المبادئ الدستورية التي ترسّخ استقلال السلطة القضائية.
أصوات قضائية معترضة
وصف المستشار محمد ناجي دربالة، نائب رئيس محكمة النقض الأسبق وأحد رموز تيار استقلال القضاء، الخطوة بأنها "إهانة مهنية وتاريخية للقضاء المصري العريق"، متسائلاً:
"هل يعقل أن يخضع من سيحكم بين الناس في دمائهم وأموالهم وأعراضهم لتأهيل عسكري خارج أسوار القضاء؟".
وأكد دربالة أن إعداد القضاة مسؤولية خالصة للمؤسسة القضائية، لا يجوز أن تتولاها أي جهة تنفيذية أو أمنية، محذراً من أن تمرير هذا الاشتراط دون اعتراض من مجلس القضاء الأعلى "يمثل تفريطاً في استقلال القضاء". واعتبر أننا أمام "لحظة فارقة" تتطلب موقفاً واضحاً من القضاة الشرفاء، وإلا فإن "الصمت سيكون جريمة تاريخية".
بدوره، قال رئيس "مؤسسة دعم العدالة بالمركز العربي لاستقلال القضاء والمحاماة" ناصر أمين إن اشتراط هذه الدورات العسكرية "جريمة غير مسبوقة" في حق السلطة القضائية، مؤكداً أنها تخالف الدستور، بشكل صريح، خاصة المواد 165 و166 و173 التي تنص على استقلال القضاء والفصل بين السلطات.
وأضاف: "أي تدخل من السلطة التنفيذية في تعيين أو تدريب القضاة يُعد باطلاً دستورياً، ويمثل أخطر تهديد لاستقلال القضاء منذ أكثر من سبعة عقود".
أما المستشار القانوني والحقوقي صالح حسب الله، فشدد على أن "إقحام الأكاديمية العسكرية في عملية تأهيل القضاة يضرب في العمق مبادئ القضاء المدني المستقل"، مشيراً إلى أن القاضي يجب أن يظل بعيداً عن أي مرجعية عسكرية أو أمنية، لأن ذلك يُخل مباشرة بمبدأ الحياد المفترض في القاضي المدني.