وائل قنديل
كاتب صحافي مصري
مصر مُستهدفة فعلًا، مُستهدفة من داخلها، لا من خارجها، مُستهدفة من أعلى قمّة السلطة الحاكمة لها إلى أسفل هذه السلطة. مصر مُستهدفة منذ قرّر فرد أن يريق دم المجموع لكي يحكم ويعاقب شعبًا على قيامه بثورة ضدّ الفساد والقمع والتبعية والدكتاتورية، يعاقبه بثورة مضادّة، يستقطب لها نخبًا من الثورة الأولى قرّرت أن تنتحر بعد أن تنحر ثورتها بنصل الغلّ والكراهية والطمع.
مصر مُستهدفة من سلطة ولغت في الدماء، فتحالفت مع الأعداء سياسيًّا وتجاريًّا، وقرّرت أن تشقّ المجتمع بالطول والعرض، وتخترع لنفسها عدوًّا بديلًا من الشعب، تمارس فيه القتل والتنكيل والإقصاء بكلّ ما فيها من سادية ووحشية، ثم بعد أن تقتله وتُلقي به في السجون والمنافي تعلّق عليه فشلها وبلادتها وفقرها واستدانتها، بل تذهب إلى حافّة الجنون عندما تحمّله المسؤولية عن كلّ الهزائم المحلية والإقليمية والدولية، وإنشاء الكيان الصهيوني واحتلال فلسطين، ودفع النظام العربي إلى سكّة التطبيع.
مصر مُستهدفة، من داخلها، في عقلها السياسي منذ قرّرت اعتناق عقيدة "الاستحمار" في مخاطبة الجماهير باعتبارها قطعانًا من البلهاء والسذّج يمكن قيادتهم بفزّاعات الخطر الإخواني وحواديت المؤامرة الكونية التي تتربّص بهم إن فكّروا في تغيير الوضع القائم أو المطالبة بشيء، وإلا سيُصبحون مثل سورية والعراق، في البداية، ثم مثل ليبيا والسودان واليمن، وأخيرًا مثل غزّة.
هي مستهدفة من أعضاء تنظيم "الخبراء الاستراتيجيين" في الصحف والفضائيات، الذين يفترسون ما تبقى من سلامتها العقلية واتزانها النفسي، مقدّمين وجهًا مجنونًا مُخيفًا لها، في كلّ محنة تمرّ بها، حتى بدا الوطن كأنه غابة مزروعة بأشجار الجنون والدجل والخرافة. مستهدفة ممن يتفانون في اجتثاث كلّ أشجار الكفاءة، وإعدام كلّ بذور التفوّق والنبوغ، من أجل التوسّع في محاصيل الرداءة والبلادة، وغرس ثقافة قلّة القيمة، ورفع شعار"الطاعة قبل النجاعة" ومطاردة كلّ من تُسوّل له نفسه ارتكاب خطيئة الفهم والمناقشة والاختلاف والتمرّد على نصوص "تلمود 30 يونيو" واعتبار كلّ انتقاد خيانة للوطن، أو على الأقل شماتة فيه.
مُستهدفة بالحرص الشديد على أن يكون خطاب المُتحدّثين باسمها باعثًا على السخرية حدّ البكاء على ما وصلت إليه من الهزال والمهانة، إلى الحدّ الذي وضعوا فيه على رأس وزارة الثقافة فيها ذات يوم "كائنًا نمنمًا" يخاطب الناس كما لو كانوا مجموعة من الدواب لا تفكّر ولا تعي، وتلتهم كلّ ما يلقى في عقلها من آراء ومعلومات فاسدة، من نوعية أنّ الإخوان حاربوا في صفوف العدو الصهيوني في أكتوبر/تشرين الأوّل 1973! وأنّهم ينخرطون في التحالف مع الاحتلال ضدّ الشعب الفلسطيني في غزّة والضفة وكلّ فلسطين، هكذا من دون أدنى شعور بالخجل من هذه الجرأة الوقحة على التاريخ وعلى العقل والمنطق يحاول من حمل مسمّى "وزير الثقافة" استحمار الجماهير، فيأتيه الردّ بالسلاح ذاته: استحمار الخطاب وأصحابه.
لا أحد ينكر أنّ مصر مُستهدفة، وهل هناك استهدافٌ أكبر وأخطر من أن يدفعها أحدهم بالإكراه إلى تجرّع الغاز الطبيعي المُصدّر من الاحتلال الصهيوني، فتدفع له 35 مليار دولار من لحم شعبها الحي، بينما هذا الاحتلال يعلن أنه ماضٍ في توسيع حدوده لتشمل مساحة من جغرافيا مصر، ثم يكون الردّ ذليلًا مكسورًا، لا على المتحدّث (مجرم الحرب نتنياهو) وإنما على ما ورد في وسائل الإعلام الإسرائيلية؟ هل ثمّة إهانة واستهداف أبلغ من أن يكون كلّ دور مصر نقل رسائل التهديد والوعيد من العدو إلى المقاومة الفلسطينية، واستقبالها في القاهرة للضغط عليها كي تقدّم مزيدًا من التنازلات، على نحو ما فعل ضياء رشوان، رئيس هيئة الاستعلامات، الذراع الإعلامية الاستخبارية الرسمية، قبل وصول وفد قيادات حركة حماس؟!
قال رشوان في حوار فضائي إنّ أمام نتنياهو مهلة عشرة أيام على الأقل للتحرّك فيها، من دون خشية من الطرف الوحيد الذي يخشاه في العالم، الولايات المتحدة. وعلى حركة حماس "أن تُعلي الآن من الجانب التكتيكي حتى لو تنازلت بعض الشيء". ... هكذا ببساطة يتقلّص دور مصر المُختنقة بالغاز الصهيونية إلى حجم ساعي البريد حامل رسائل التهديد، ثم يخرج وزير خارجيتها ليدّعي أنها تتعامل مع القضية الفلسطينية بأيدٍ بيضاء وبشرف في زمن عزّ فيه الشرف، من دون أن يشرح لنا ما هو مفهوم الشرف؟ هل هو في تبادل المنافع الاقتصادية (صفقات الغاز) والمصالح السياسية (الترحيب بنشر قوات في غزّة وهو رغبة صهيونية معلنة مع الإصرار على إعادة احتلالها وتعيين إدارة عربية ترضى عنها تل أبيب)؟.
الحقيقة أن مصر مستهدفة ممن يحكمونها بالخوف والترويع وإفساد مفاهيم مستقرّة وتسييد مفاهيم زائفة وفاسدة عن الوطنية والشرف والانتماء.