ساري عرابي

كاتب وباحث فلسطيني

 

كشفت حرب الإبادة الجماعية الإسرائيلية على الفلسطينيين في قطاع غزّة ما تبعها من استطالة إسرائيلية عدوانية في الإقليم، عن استبانة إسرائيل على حقيقتها بعد نزع الأسطورة عنها، وهي حقيقة ممتدة في ثلاث حقائق:

الأولى ـ المحدودية الإسرائيلية، هذه المحدودية هي التي أرادت إسرائيل التغطية عليها بالإبادة على غزّة، بتعميق النكبة في الوعي الفلسطيني إثر الفاعلية الفلسطينية، وفرضها ردعًا على الإقليم كلّه، أرادت إسرائيل القول إنّها إذا مُسّت فإنّها لا تملك القدرة فحسب، بل والإرادة، والاستعداد للانفلات من أي كابح، لسحق الذي مسّها.

هذا منطق استعماري تقليدي، أيْ تدفيع الشعب الذي يقاوم الاستعمار أثمانًا تفوق في راهنيتها وفي عمق تأثيرها أيّ نتائج قريبة من فاعليته المبادرة لمواجهة الاستعمار. بيد أنّ قدرة فصيل فلسطيني محدود القدرات في بيئة مكشوفة ومحاصرة على إنفاذ أكبر عملية عسكرية في تاريخ الصراع مع إسرائيل مستندة إلى الخداع الإستراتيجي تكشف عن هذه المحدودية الإسرائيلية التي يمكن ترجمتها بالقابلية الفعلية للهزيمة. لا يعني ذلك، أنّ نجاح عملية السابع من أكتوبر في حدودها الزمانية والمكانية، القفز عن أي مراجعة لحساباتها ورهاناتها، ولكن يعني ضرورة عدم الاستسلام لسياسة الإبادة الرامية إلى طمس هذه الحقيقة الأولى، هذا الاستسلام يتجلّى اليوم في أسئلة تستفيد عكسيًّا من الحقائق الثلاث التي نحن بصددها.

الثانية ـ الارتباط العضوي بين الحالة العربية والاستمرارية الإسرائيلية، وهو أمر يعود إلى أصل هذا الارتباط بين تأسيس الدول العربية على أساس هويات متطابقة مع التقسيم الاستعماري بعد الحرب العالمية الأولى، واستثناء فلسطين من ذلك للتمهيد لقيام الكيان الصهيوني، مما يجعل الهندسة الاستعمارية الفرنسية/ البريطانية للمنطقة، التي ورثتها الإمبراطورية الأمريكية، شديدة التركيب، ولكنها شديدة الوضوح حين رصد السياسات، من حيث تناقض انتصار فلسطين مع الهويات الوطنية العربية المتجسدة في الدول العربية، وهو أمر ظهر بالرفض العملي لحالة المقاومة الفلسطينية من بعد النكبة، وانعكس في صراعات مباشرة معها، دون إغفال الأخطاء الفادحة التي اقترفها الفلسطينيون، لكنها لم تكن العامل الحاسم في السعي العربي المستمر لحصار المقاومة الفلسطينية، بالنحو الذي أخرجها من بيروت، وتاليًا ألزمها بتوقيع اتفاقية أوسلو.

اليوم لا يُظهِر العرب عجزًا عن دعم الفلسطيني في حدّ أدنى كإغاثة الواقعة عليهم الإبادة في غزة بالطعام والدواء، ولكن تواطؤًا واضحًا يظهر مباشرة في الحملات الإعلامية التي تتبنّى السردية الصهيونية، أو تدين المقاومة الفلسطينية، أو تجعل رواية الإبادي وجهة نظر قابلة للاستماع، ويظهر في حملات الشيطنة الموتورة التي تهاجم المقاومة وقيادتها كلما انحشرت الأنظمة العربية في زاوية الاتهام بالعجز أو الخذلان أو التواطؤ، أو في الجهود الأمنية التي تمنع الجماهير من أيّ فعل محدود لا يكاد يتجاوز عتبة رفع العتب كالمظاهرات أو الكتابة على مواقع التواصل الاجتماعي أو جمع التبرعات.

إنّ هذه الحقيقة تطرح الأسئلة الواجبة عن معنى الوجود العربي، وعن كون الواقعة الاستعمارية الإسرائيلية تمددت في المجال العربي لإبادة العرب معنويًّا، حينما يَظهرون بهذا القدر من العجز وقلة الحيلة وهم بمئات الملايين، عن إغاثة الفلسطينيين في قطاع غزّة، وهو سؤال يفترض أنه كان حاضرًا طوال الوجود الإسرائيلي في فلسطين، لشذوذه وطروئه ولا معقوليته التاريخية والمادية (أي الوجود الإسرائيلي)، ولكن استمراره كان دائمًا مشروطًا بالحالة العربية، التي لا يمكن التغطية عليها الآن بعد هذه الإبادة. لا يقتصر الأمر مع هذه الحقيقة الفاضحة؛ على مراجعة الذات العربية من حيث جدواها الوجودية، ولكن أيضًا يعيد فلسطين بوصفها قضية كلّ عربي حينما تكون كاشفة عن هذه الأحوال العربية المريعة، مما يعيد أطروحة كون القضية الفلسطينية قلب القضية التحررية العربية.

الثالثة ـ أنّ العدوّ المباشر والأكثر خطورة وإلحاحًا على العرب جميعًا هو إسرائيل، وهي الحقيقة التي سعت الحكومات والأنظمة العربية لطمسها طوال عقود، سواء في مسار طويل من التخلّص من القضية الفلسطينية من بعد هزيمة العام 1967، أو في خطابات الأولويات الوطنية التي تجعل فلسطين نقيضًا لها، وهي خطابات بدأت بالظهور بعد كامب ديفيد المصرية، وانتشرت بعد موجة التطبيع الأولى أواسط تسعينات القرن الماضي بعد توقيع اتفاقية أوسلو، ودُفعِت إلى الأمام من جديد بعد ما يُسمى بـ "ثورات الربيع العربي"، وفي السياق كانت محاولات إنكار كون إسرائيل عدوًّا وهو الأمر الذي تجسّد عمليًّا في اتفاقيات التطبيع، وإحلال أعداء جدد مكانها، كما يسمى بـ "الإسلام السياسي" وجماعاته، و"المشروع الإيراني" وإذكاء الطائفية في المنطقة، وكل عدوّ من هؤلاء الأعداء المصطنعين، وجد له حضورًا لدى نخب وأوساط شعبية، بما في ذلك لدى قوى هي نفسها متهمة كقوى "الإسلام السياسي" التي تمكنت ذات الأنظمة التي تعاديها وتعمل على سحقها باستمرار، من أن تستدخل إليها الخطاب الطائفي والإخلال بالأولويات الوجودية للعرب والمسلمين من حيث تراتبية الأخطار وكيفيات مواجهتها وسبل النهوض منها.

الآن يتضح بما لا لبس فيه قدرة إسرائيل الفائقة على بسط عدوانها العسكري المباشر على الإقليم كما يحصل في سوريا ولبنان وإيران، واللعب بالتوازنات الإقليمية والوطنية، بما يحتّمها الخطر الأكثر مباشرة وإلحاحًا على الأمن القومي العربي ولبقية القوى الأصيلة والطبيعية في المنطقة.

هذه الحقائق كان يفترض بها أن تطرح على الواقع العربي الأسئلة الصحيحة، من قبيل العودة للتأكيد على معنى مركزية القضية الفلسطينية، وتداخلها العضوي مع القضايا العربية الأخرى، وسبل التحرر واستكمال الاستقلال الوطني لدول الإقليم وفي طليعتها العربية منها، والبناء على الحقائق التي أكدتها عملية السابع من أكتوبر، بما في ذلك قدرة المقاومة الفلسطينية في قطاع غزّة في غمرة الإبادة الجماعية. إلا أنّ الأسئلة التي استمرّ الإلحاح في طرحها، ولاسيما بفعل الإبادة الجماعية المروعة والمخيفة، هي تلك التي تؤكد على الوطنيات العاجزة والتابعة لأغراض تنموية اقتصادية وهمية بما يجعل القضايا العربية من جديد على النقيض من القضية الفلسطينية، وإعادة تقييم المقاومة الفلسطينية بسلب مبرر وجودها وأدواتها بالحديث المستمرّ عن ضرورة مراجعة أدوات الكفاح الفلسطيني، ويقصد به حصرًا الكفاح المسلح، دون أيّ مراجعات جادّة لمسار التسوية ومآلاته الانقسامية على الواقع الفلسطيني والمصادرة من الفلسطينيين أدوات كفاحهم الأخرى غير المسلحة، والتي وفّرت (أي التسوية) لإسرائيل أسباب التمدد في الإقليم، ولاسيما مع الدول العربية.

هذا كلّه ظهر بديل السؤال الصحيح عن سرّ العجز العربي السياسي، والذي هو كما سلف القول؛ أقرب إلى التواطؤ المقصود، والعجز العربي الشعبي والجماهيري الناجم عن سياسات التجريف المادي التي مارستها الحكومات العربية وبما أفضى إلى خدمة إسرائيل، والتحريف المعنوي بحيث جهلت الأجيال الجديدة من الجماهير العربية أهمية القضية الفلسطينية بالنسبة لها، ليس فقط على المستويات المعنوية والثقافية والأخلاقية، ولكن أيضًا على المستوى المادي المباشر من حيث مصلحة سكان المنطقة العربية ومستقبل أبنائهم.