أسامة أبو أرشيد

كاتب وباحث فلسطيني

 

لا يمكن فصل العدوان الإسرائيلي على قطر، الثلاثاء الماضي، من سياقه الأعم المتمثل في الهدف الإسرائيلي المعلن عن إعادة تشكيل الشرق الأوسط. وكان رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، أعلن في خضم العدوان على إيران (يونيو الماضي)، أن إسرائيل "ستغيّر وجه الشرق الأوسط". وقبل ذلك، ومن على منصّة الجمعية العامة للأمم المتحدة (سبتمبر  2023، أي قبل "طوفان الأقصى" في أكتوبر 2023)، طرح نتنياهو رؤيته لـ"شرق أوسط جديد"، وعرض خريطة للمنطقة غابت عنها الضفة الغربية وقطاع غزّة. ويتبنّى نتنياهو مبدًا لا يفتأ يكرّره "السلام عبر القوة"، أو كما قال، بعد مشاركة الولايات المتحدة في العدوان على إيران، "القوة أولًا، ثمَّ السلام". وبعد العدوان أخيرًا على الدوحة، هدّد، وهو المسكون بسكرة النصر الذي يَتَوَهَمُهُ، إن على قطر وجميع الدول التي تسمح "للإرهابيين" بالوجود على أرضها أن تطردهم، وإلا فستفعل إسرائيل هذا. طبعًا، يتغافل نتنياهو هنا عن سابق إصرار وسوء نيّة أن قطر دولة وسيط، تمرّ عبرها الوفود الإسرائيلية والأميركية، كما وفود حركة حماس، وأنها هي من توسّط في اتفاقيات تبادل أسرى إسرائيليين وفلسطينيين سابقة.

 

على أي حال، الهدف الإسرائيلي بـ"تغيير وجه الشرق الأوسط" معروف ومعلن، ولا يجهله إلا من يتعامى عنه متواطئًا ومتعمّدًا. ومع ذلك، لا يزال ثمَّة من يزعم أو يخدع نفسه أن معركة إسرائيل هي مع المقاومة الفلسطينية في قطاع غزّة على خلفية عملية "طوفان الأقصى" في 7 أكتوبر 2023، في حين أن إسرائيل نفسها، ومنذ عامين تقريبًا، تتحدّث عن حرب الجبهات السبع في: غزّة، والضفة الغربية، ولبنان، وإيران، والعراق، وسورية، واليمن. بل تحولت هذه الجبهات اليوم إلى جبهة واحدة مفتوحة، تشمل كل ما يعرف بمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وما العدوان على الدوحة إلا خطوة في هذا الاتجاه، ولا تعدم إسرائيل الذرائع هنا.

 

في حالة الدوحة، وربما مصر والجزائر وتركيا أيضًا، الذريعة استضافة قادة في المقاومة الفلسطينية، فكما قال نتنياهو "أقول لقطر وجميع الدول التي تؤوي الإرهابيين، إما أن تُرحّلوهم أو تُحاكموهم. وإلا فسوف نفعل ذلك". وهذا تهديد مباشر لهذه الدول. وفي حالة لبنان، بقاء سلاح حزب الله واستضافة قادة من المقاومة الفلسطينية كذلك. وفي حالة سورية فرض منطقة منزوعة السلاح في جنوب البلاد وزعم حماية الدروز. وفي حالة اليمن تعطيل أنصار الله الحوثيين الملاحة الدولية نحو إسرائيل. وفي حالة تونس، رسو سفن "أسطول الصمود العالمي"، التي تسعى إلى إيصال مساعدات إلى غزّة، في موانئها (تعرّضت سفينتان من سفن الأسطول الثلاثاء الماضي لهجومين يشتبه أن إسرائيل وراءهما). وفي حالة إيران برنامجها النووي... إلخ.

 

"مبدأ "السلام من خلال القوة" الذي تتبنّاه إسرائيل
يعني أنها لا تؤمن بشركاء، بل تريد تابعين وعبيدًا لها"
 

ما سبق يؤطره تصريح نتنياهو في مقابلة مصوّرة، في الشهر الماضي (أغسطس)، أنه يعتبر نفسه "في مهمّة تاريخية وروحانية"، وأنه "مرتبط عاطفيًا برؤية إسرائيل الكبرى"، مشدّدًا على أنه في "مهمّة أجيال بالإنابة عن الشعب اليهودي". وخلال تلك المقابلة، قدّم المذيع هدية له تجسّد "خريطة أرض الميعاد"، ليسأله إن كان يتفق مع رؤية هذه الخريطة، ليرد نتنياهو بالقول: "كثيرًا". ومعروف أن حدود "أرض الميعاد" توراتيًا، وهي المملكة التي حكمها داود وسليمان عليهما السلام، تمتدّ، حسب سفر التكوين، "من النهر العظيم، نهر الفرات، إلى نهر مصر (النيل)". بعبارة أخرى، الخريطة التي يروّجها نتنياهو تحت مسمّى "إسرائيل الكبرى" تشمل كامل الأراضي الفلسطينية المحتلة، بما فيها الضفة الغربية وقطاع غزة، إلى جانب أجزاء من الأردن ولبنان وسورية ومصر والعراق والسعودية. بل لا تستثني هذه الرؤية تركيا، خصوصًا في ظل المخطّطات الإسرائيلية لإقامة ما يُعرف بـ"ممرّ داود"، الذي يبدأ من مرتفعات الجولان السورية المحتلة جنوب غرب البلاد، ويمرّ عبر المحافظات السورية الجنوبية المتاخمة لإسرائيل والأردن، وتحديدًا القنيطرة ودرعا، ثم يتّجه شرقًا عبر السويداء في جبل حوران، ليخترق البادية السورية وصولًا إلى معبر التنف الاستراتيجي عند الحدود السورية– العراقية– الأردنية. لا يقتصر هذا المشروع على تفتيت سورية فحسب، بل ينطوي أيضًا على تدخّل مباشر في الملف الكردي الانفصالي في كل من العراق وتركيا، بما يحمله من تداعياتٍ جيوسياسية عميقة.

 

أيضًا، الاتهامات التي وجّهها نتنياهو لمصر قبل أيام، أنها "تحتجز" سكان غزّة وتمنعهم من مغادرة القطاع المنكوب الذي تشن فيه إسرائيل حرب إبادة وتجويع ممنهجة، لا يمكن فصلها عن السياق الأوسع لمشروع "إعادة تشكيل وجه الشرق الأوسط" وأحلام "إسرائيل الكبرى". كما أن تهديده بوقف تصدير الغاز إلى مصر، بذريعة "خروق لاتفاقية السلام"، إلى جانب نشر تعزيزات عسكرية في سيناء، يكشف عن تصعيد مدروس يتجاوز مجرّد التوتر الثنائي، ليصبّ في رؤية توسّعية تتحدّى الترتيبات الإقليمية القائمة. وينطبق الأمر نفسه على المساعي الإسرائيلية المتسارعة لضمّ أجزاء واسعة من الضفة الغربية، وهي خطوة من شأنها أن تقوّض عمليًا وجود السلطة الفلسطينية، وتفتح الباب أمام موجة تهجير جديدة نحو الأردن، بما يحوّل الأزمة من احتلال إلى إعادة هندسة ديمغرافية وجيوسياسية للمنطقة. المفارقة أن هذه الأطراف الثلاثة (مصر، الأردن، والسلطة الفلسطينية) مرتبطة بمعاهدات واتفاقيات سلام رسمية مع إسرائيل. ومع ذلك، هذه الاتفاقات لم تحصّنها من التحرّشات الإسرائيلية المتكرّرة، التي باتت تُوظّف أدوات ضغط ضمن مشروع إقليمي أكبر، لا يعترف بالحدود ولا بالسيادة، إلا بقدر ما تخدم الرؤية الإسرائيلية الأحادية.

 

"تمضي إسرائيل في غيّها، مدفوعةً بوهمي "إعادة تشكيل وجه الشرق الأوسط"
و"إسرائيل الكبرى"، وهما مشروعان خياليان، لكنهما قابلان للتحقّق"

 

كان العدوان أخيرًا على الدوحة مجرّد رسالة أن إسرائيل دخلت مرحلة جديدة من محاولاتها إعادة صياغة منطقة الشرق الأوسط وما وراءه. مبدأ "السلام من خلال القوة" الذي تتبنّاه إسرائيل يعني أنها لا تؤمن بشركاء، بل تريد تابعين وعبيدًا لها، وأنّ لا أحد محصّن أمام تفوقها العسكري الكاسح. حتى الذين يظنّون أن تحالفاتهم مع الولايات المتحدة تحميهم، عليهم أن يعيدوا النظر في هذا الوَهْم. لو صدّقنا التقارير أن تل أبيب لم تُخطر واشنطن مسبقًا بعدوانها المزمع على الدوحة، فهذا لا يعفي الأخيرة من التواطؤ والشراكة في الجريمة. أولًا، لا يمكن تصديق أن الاستخبارات والرادارات الأميركية لم ترصد الطائرات الإسرائيلية منذ لحظة انطلاقها. ثانيًا، حتى لو تظاهرنا بتصديق ذلك، فإن الولايات المتحدة تملك أنظمة دفاع صاروخي في قطر كانت مُلزمة باستخدامها استنادًا إلى أن قطر حليف أساسي من خارج حلف الناتو. ثالثًا، رغم أن تقريرًا في صحيفة وول ستريت جورنال الأميركية (الأربعاء 10 سبتمبر)، أشار إلى اتصال متوتّر جرى بين الرئيس دونالد ترامب ونتنياهو على خلفية العدوان على قطر دون إبلاغ واشنطن، إلا أن التقرير نفسه أشار إلى اتصال ثانٍ وديٍّ بينهما استفسر فيه ترامب من نتنياهو عما إذا كانت العملية العسكرية الإسرائيلية قد نجحت أم لا! رابعًا، وهذا هو الأهم، إن إسرائيل ما كانت لتجرؤ على شن هذا العدوان لو كانت تخشى ردّة فعل أميركية حازمة. وكما يقول المثل العربي: "من أمن العقوبة أساء الأدب".

 

باختصار، تمضي إسرائيل في غيّها، مدفوعةً بوهمي "إعادة تشكيل وجه الشرق الأوسط" و"إسرائيل الكبرى"، وهما مشروعان خياليان، لكنهما قابلان للتحقّق، إذا ما تواطأ النظام الرسمي العربي ضد ذاته. ومن لا يدرك أن غزّة تمثل آخر سدٍّ أساسيٍ في وجه هذا الطوفان التوسّعي، فإنه يختار طوعًا طريق الفناء أو الانحسار.