مصطفى عبد السلام
رئيس قسم الاقتصاد في موقع وصحيفة "العربي الجديد"
تضغط المقاطعة الاقتصادية الواسعة بشدّة على إسرائيل ومنتجات الشركات العالمية الداعمة لحرب الإبادة على غزة، ويومًا بعد يوم يكبد المقاطعون دولة الاحتلال خسائر فادحة، بل ودفع هذا الشركات الداعمة نحو تصفية أنشطتها في أسواق رئيسية. أحدث الأمثلة ما أعلنته سلسلة متاجر كارفور الفرنسية الشهيرة عن الانسحاب من البحرين ووقف جميع عملياتها التجارية داخل الدولة الخليجية اعتبارًا من اليوم الاثنين، وذلك على خلفية تصاعد حملات المقاطعة الشعبية لمنتجاتها.
القرار يعد الثالث عربيًا، إذ سبق للشركة الفرنسية، التي تمتلك 14 ألف متجر في 40 دولة، الانسحاب من سلطنة عُمان والأردن، كما يأتي عقب أيام من الانسحاب من إيطاليا، إذ أجبرت المقاطعة الواسعة والخسائر كارفور على مغادرة السوق الإيطالية، وبيع شبكة فروعها ومحالّها التجارية البالغة 1188 متجرًا، وهو ما شكل صدمة لسلاسل المتاجر العالمية والعلامات الكبرى؛ فإيطاليا تعدّ خامس أكبر أسواق كارفور في العالم بعد فرنسا والبرازيل وإسبانيا وبلجيكا، وبلغ صافي مبيعاتها في هذه السوق 3.7 مليارات يورو العام الماضي.
بموازاة تلك الخطوة تنشط حملات المقاطعة الشعبية على مستوى العالم، أحدث مثال المعركة التي تشهدها نيوزيلندا حاليًا، والضغوط الشديدة التي يمارسها رجل الشارع على الحكومة لإعلان مقاطعة إسرائيل والضغط على صندوق التقاعد النيوزيلندي وغيره لسحب أيّ استثمارات حكومية من أي شركة ترتبط بالاحتلال أو أيّ شركة متورطة بدعم المستوطنات المحتلة. لا يتوقف الأمر عند هذا الحد بل اتّخذ مجلس بلدية ويلينغتون، عاصمة نيوزيلندا، قرارًا تاريخي وغير مسبوق في 20 أغسطس الماضي، باستبعاد الاستثمارات المرتبطة بإسرائيل من استراتيجياته المالية.
ويوم السبت الماضي، شهدت مدينة أوكلاند، كبرى مدن نيوزيلندا، مسيرة جماهيرية حاشدة، شارك فيها نحو 50 ألف متظاهر، للتعبير عن التضامن مع الشعب الفلسطيني، والمطالبة بوقف حرب الإبادة، وفرض عقوبات اقتصادية على إسرائيل.
وفي أوسلو يواصل صندوق الثروة النرويجي، أكبر صندوق سيادي في العالم، تصفية استثماراته في إسرائيل التي تتجاوز قيمتها 2.1 مليار دولار موزعة على 61 شركة إسرائيلية، وقد بدأ الصندوق بالفعل التخلي عن بعض تلك الاستثمارات، إذ باع حصته في 11 شركة اتصالات وطاقة وخمسة بنوك، وهو الإعلان الذي شكّل صدمة قوية داخل الأوساط الاقتصادية الإسرائيلية، إذ إنّ الخطوة جاءت بدعم من السلطات النرويجية.
وفي إسبانيا أسهمت الحملات الشعبية في إلغاء صفقات أسلحة إسرائيلية، وخرجت مسيرات تجوب شوارع مدريد وبرشلونة وإشبيلية وغيرها تطالب بمقاطعة الشركات الداعمة لإسرائيل، حتى الحكومة الإسبانية نفسها أعلنت أنها لم تشتر أو تبع أيّ أسلحة لشركات إسرائيلية منذ السابع من أكتوبر 2023، وأنها لن تفعل ذلك مستقبلًا. وقبل يومين أفشل الإسبان سباق دراجات عالميًا لمنع مشاركة إسرائيل فيه، وقال وزير الثقافة الإسباني إرنست أورتاسون إنّ على بلاده مقاطعة مسابقة الأغنية الأوروبية "يوروفيجن" العام المقبل إذا شاركت إسرائيل، لينضم بذلك إلى دول أوروبية أخرى هدّدت بالانسحاب من الحدث الثقافي العالمي. وقرّرت هولندا بالفعل مقاطعة المسابقة الأوروبية في حال شاركت فيها إسرائيل.
أوروبيًا تصاعدت حملات مقاطعة إسرائيل اقتصاديًا وأكاديميًا وسياسيًا، بل إنّ الخبير الإسرائيلي في الشؤون المصرفية والمالية سامي بيريتس، حذّر من أنّ استمرار الحرب على غزة واتّساع نطاقها قد يفتح الباب أمام مقاطعة أوروبية شاملة لإسرائيل، الأمر الذي قد يقود إلى عام ثالث من تدهور مستويات المعيشة.
وفي تركيا أعلن وزير الخارجية التركي هاكان فيدان قبل أيام أن بلاده قرّرت قطع علاقاتها الاقتصادية والتجارية مع إسرائيل كليًا، وأنه سيجري إغلاق المجال الجوي التركي أمام الرحلات الجوية الإسرائيلية، وأكد أن العلاقات التجارية بين بلاده وإسرائيل مقطوعة بالكامل، وأن الموانئ التركية مغلقة أمام السفن الإسرائيلية، في ظل ما ترتكبه إسرائيل من إبادة وتجويع بحق الفلسطينيين في غزة.
العالم يحاصر إسرائيل اقتصاديًا، وهو ما يزيد من عزلتها على الساحة الدولية، ويحولها إلى دولة عنصرية منبوذة. وتنشط موجات وحملات المقاطعة للشركات الداعمة لحرب الإبادة، في الوقت الذي فشل فيه قادة العرب والمسلمين المجتمعين اليوم في الدوحة في اتّخاذ موقف موحّد بوقف التطبيع الاقتصادي والتجاري مع إسرائيل، وإلغاء صفقات استيراد الغاز الطبيعي، وغلق ملف التعاون المالي والاستثماري، وسحب الاستثمارات الخليجية الضخمة من دولة الاحتلال، خاصة تلك التي جرى ضخها عقب توقيع اتفاق أبراهام، ووقف حركة الطيران وتدفق السلع العربية نحو أسواق تل أبيب وغيرها.