إدراك وفهم عميقان لمعنى وحقيقة يوم القيامة، اليوم الذي تنقطع فيه كل الصلات والوشائج والعلاقات التي كانت بين البشر في الحياة الدنيا، فلا علاقات رحم، ولا قربى، ولا مصالح، ولا غيرها.

إن مثل هذا الإدراك أو الفهم العميق لحقيقة القيامة دفع بخليل الرحمن عليه السلام إلى أن يسأل المولى سبحانه : { ولا تخزني يوم يبعثون * يوم لا ينفع مال ولا بنون * إلا من أتى الله بقلب سليم } (الشعراء: 87 -89).

لن ينفع المرء يوم القيامة ماله، ولا نسبه، ولا أصله، ولا جاهه، ولا أحد من أبنائه وأزواجه وأرحامه. لن ينفع المرء منا ذلك اليوم إلا قلبه، بشرط أن يأتي الله بقلب سليم موحد خالص من الشرك. ومع ذلك، يمكن أن ينتفع الناس بأموالهم وأولادهم، كما يقول الإمام أبو منصور الماتريدي في تفسيره (تأويلات أهل السنة): “إذا أتوا ربهم بقلوب سليمة، لما استعملوا أموالهم في الطاعات وأنواع القرب، وعلموا الأولاد الآداب الصالحة والأخلاق الحسنة، فينفعهم ذلك يومئذ، كقوله: { وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلا من آمن وعمل صالحا فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا} (سبأ:37)، أخبر أنهم إذا آمنوا وتابوا قربتهم أموالهم وأولادهم عنده “. (1)

ويضيف الماتريدي أنه يجوز أن يكون الأمر على غير ذلك، أي لا ينفع مال ولا بنون، وإنما ينفع من أتى الله بقلب سليم. والقلب السليم هو السالم من الشرك، أو السالم من الآفات والذنوب، والخالص لربه، لا يجعل لغيره فيه حقا ولا نصيبا. وشرط فيه إتيانه ربه كما ذكر؛ ليعلم أنه ما لم يقبض على السلامة والتوحيد، لا ينفعه ما كان منه قبل ذلك من الطاعات إذا لم يقبض على التوحيد.

هذا يدعو المرء إلى الاهتمام بالنفس في هذه الحياة الدنيا، وهذا أمر ليس فيه ما يعيب، بل هو واجب، إذ يجب المحافظة على النفس في هذه العاجلة من الأمراض، ومن شر كل ما يمكن أن يعيبها ويعطلها عن هدفها الوحيد، وهو إعدادها وإنقاذها من مشاهد الآخرة المتنوعة غير المألوفة.

لا أحد يومئذ معي ومعك، أو ينفعني وينفعك، أو يشفع لي ويشفع لك كما الحال في الدنيا، فإن ذلك اليوم لن ينفعنا مال ولا بنون إلا إن أتينا الله بقلوب سليمة. ومن هنا يأتي مفهوم الاهتمام بالنفس أولا وقبل الغير في حياتنا الدنيا، لأننا محاسبون على ما نقوم به، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر.
 

يوم التغابن
في الدنيا قد تقصر وتهمل في واجباتك الأسرية أو الوظيفية أو غيرها من المهام الحياتية المتنوعة، لكنك غالبا ستجد من يشفع لك في نهاية المطاف، ويخرجك من ورطة أو مشكلة قد تقع فيها بسبب ذلك التقصير أو الإهمال، أو على أقل تقدير تجد من يخفف عنك بعض ما أنت فيه من هموم ومشكلات ومنغصات دنيوية لا تنتهي ولا تتوقف.

لكن يوم التغابن أو يوم المحاسبة، قد تتوسل إلى ولدك أو زوجك أو أمك وأبيك أن يمنحوك بعض ما لديهم من حسنات، أو تطلب منهم أن ينصتوا إليك لحظات تشرح لهم وضعك البائس، وكلك أمل ورجاء أن ترق قلوبهم لك بعض الشيء لتخفيف ما قد تواجهه، فلا تجد منهم آذانا صاغية، ولا قلوبا واعية، ليس لأنك لا تعني لهم شيئا، بل لأنهم هم أنفسهم في حاجة إلى من يتكرم عليهم ويعطف، ويأخذ بأيديهم مما هم فيه أيضا.

وربما تراهم يهربون منك يمنة ويسرة، لا يلتفتون خلفهم، وهم الذين كنت تبذل الغالي والنفيس من أجلهم في الحياة الدنيا! لكن هذا الأمر يفيدك ويفيدني ويفيد كل قارئ أن الدنيا شيء، والآخرة شيء آخر، لا يمكن أن يستوعبه أو يتخيله عقل.
 

خلاصة
الأمر هناك سيختلف تماما، ولا أظن أحدا في حياتنا الدنيا عنده تلك المقدرة على وصف ما سيكون عليه حال الناس حينها. إنه يوم ليس كأي يوم، ثقيل على الكافرين غير يسير، تبلغ الأمور فيه من الشدة ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: “لا تزال الخصومة بين الناس يوم القيامة حتى تخاصم الروح الجسد”.(2)

هكذا تبلغ الأمور يومئذ .. نسأل الله لنا ولكم العافية، وأن يثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا والآخرة.