في مشهد انتخابي قلّ نظيره في تاريخ مدينة نيويورك، يخوض عضو مجلس المدينة زهير ممداني معركة شرسة على رئاسة البلدية، ليس فقط ضد منافسيه السياسيين، بل ضد آلة مالية ضخمة تحركها مصالح النخبة الثرية التي تخشى من صعوده إلى قمة السلطة المحلية. ففي أسبوع واحد فقط، كشفت مجلة فوربس أن 26 مليارديرًا أو عائلة مليارديرية أنفقوا أكثر من 22 مليون دولار لعرقلة حملته الانتخابية، في محاولة يصفها مراقبون بأنها “أكبر تدخل للمال الكبير في انتخابات محلية منذ عقود”.
المال في مواجهة الفكرة
منذ إعلانه الترشح، وضع ممداني نصب عينيه برنامجًا انتخابيًا طموحًا يهدف إلى إعادة هيكلة النظام الضريبي ورفع مستوى العدالة الاجتماعية في المدينة الأكثر تفاوتًا في الدخل داخل الولايات المتحدة. وهو ما جعله هدفًا مباشرًا لطبقة الأثرياء التي ترى في مشروعه خطرًا على امتيازاتها الاقتصادية.
لكن المدهش في المعادلة أن هذا الهجوم المالي الضخم لم يضعف حملته، بل زادها زخمًا وتعاطفًا شعبيًا، إذ بدأ كثير من سكان نيويورك يرون فيه “المرشح الذي يخيف الأغنياء”، وهو وصف تحوّل إلى شعار متداول في المظاهرات الداعمة له.
دعم محدود من أثرياء التقدمية
ورغم التكتل المالي الهائل ضده، لم يقف ممداني وحيدًا تمامًا، فقد حظي بدعم رمزي من اثنين من كبار المليارديرات الذين يمثلون التيار التقدمي داخل النخبة الأميركية.
فقد أعلنت إليزابيث سيمونز، ابنة الملياردير الراحل جيم سيمونز مؤسس صندوق التحوط الشهير رينيسانس تكنولوجيز، عن تبرع بقيمة 250 ألف دولار لصالح منظمة “نيويوركرز من أجل تكاليف أقل”، وهي الجهة الرئيسية التي تدعم حملة ممداني. إليزابيث، المعروفة بنشاطها في دعم قضايا العدالة الاجتماعية والمناخ والتعليم، أكدت أن دعمها يأتي “انتصارًا لفكرة السياسة من أجل الناس لا من أجل الأرباح”.
أما الداعم الثاني فهو توم بريستون-ويرنر، المؤسس المشارك لشركة جيثب، الذي تبرع بمبلغ متواضع نسبيًا قدره 20 ألف دولار، مؤكدًا في تغريدة له أن “نيويورك تحتاج إلى صوت جريء يعيد تعريف العدالة الاقتصادية”.
تحالف جديد من القاعدة الشعبية
لم تقتصر حملة ممداني على التبرعات الفردية من الأثرياء التقدميين، بل شهدت تدفق دعم جماهيري واسع من فئات الشباب والعمال والموظفين الصغار، الذين رأوا في خطابه انعكاسًا لمعاناتهم اليومية من ارتفاع تكاليف المعيشة والإيجارات وأسعار الخدمات.
كما جذب ممداني تأييدًا من شخصيات ثقافية بارزة مثل جين فوندا التي تبرعت بألف دولار ووصفت حملته بأنها “إحياء لروح بيرني ساندرز في قلب نيويورك”، والممثلة سينثيا نيكسون التي ساهمت بخمسة آلاف دولار. كذلك قدّم الأخوان هارون وإدريس مختار زاده، مؤسسا شركة “روكيت موني”، تبرعات تجاوزت 180 ألف دولار، ليصبحا من أبرز داعمي التيار التقدمي في عالم التكنولوجيا.
معركة أيديولوجية لا مالية
يرى المحللون أن الصراع الدائر في انتخابات بلدية نيويورك تجاوز حدود المنافسة الانتخابية التقليدية ليصبح صراعًا أيديولوجيًا بين معسكرين: الأول تمثله النخبة المالية المحافظة التي تسعى لحماية امتيازاتها، والثاني يمثله التيار التقدمي الذي يقوده ممداني، والذي يدعو إلى إعادة توزيع الثروة وتحجيم نفوذ المال في السياسة.
ويشير الخبير السياسي الأميركي مايكل بارنز إلى أن “حجم الإنفاق ضد ممداني يعكس خوف المؤسسات المالية من تحوّل جذري في أولويات المدينة”، مضيفًا أن “كل دولار يُنفق ضده يزيد من رصيده الشعبي ويؤكد أنه يهدد فعليًا بنية القوة التقليدية”.
بين المال والإرادة
على الرغم من أن خصومه يمتلكون المال، فإن ممداني يمتلك الإيمان بقدرته على التغيير، وهو ما يظهر بوضوح في التجمعات الشعبية التي تشهد هتافات تدعو إلى “استعادة نيويورك من قبضة المليارديرات”.
ويرى أنصاره أن فوزه سيكون بمثابة “ثورة ناعمة” تعيد تعريف دور الحكومة المحلية في حماية المواطنين لا المستثمرين.
قد لا تحسم صناديق الاقتراع وحدها هذه المعركة، بل سيحسمها الصراع بين المال والإرادة، بين النفوذ والعدالة، بين الخوف والأمل. وفي كل الأحوال، نجح زهير ممداني في فرض نفسه كرمز جديد للسياسة النظيفة في زمن تهيمن عليه المصالح المالية، مثبتًا أن الأفكار الصادقة قادرة على مواجهة مليارات الدولارات إذا وجدت من يؤمن بها حتى النهاية.

