مع اقتراب موعد الانتخابات البرلمانية لعام 2025، تعود إلى الواجهة مشاهد تكشف عن أزمة عميقة في صميم العملية الديمقراطية المصرية. فمن فيديوهات التزاحم على سيارات المواد الغذائية في مغاغة بالمنيا، إلى وقائع توزيع "الرشاوى العينية" في الشرقية، تتجلى صورة قاتمة لمشهد انتخابي يهيمن عليه المال السياسي، وتُستخدم فيه حاجات المواطنين الأساسية كأداة لحشد الأصوات. لم تعد هذه الوقائع مجرد حوادث معزولة، بل أعراض لخلل بنيوي يحوّل المنافسة السياسية إلى علاقة زبائنية، ويفرغ الانتخابات من مضمونها الحقيقي كآلية للتعبير عن الإرادة الشعبية واختيار من يمثلها ببرنامج ورؤية.
مغاغة بالمنيا: مشهد الفقر في مواجهة "الكرم" الانتخابي
في مركز مغاغة، شمال محافظة المنيا، تحولت سيارة ربع نقل مُحملة بكراتين المواد الغذائية إلى بؤرة لمشهد يعكس حالة من العوز والضغط الاقتصادي. وثقت مقاطع فيديو متداولة تزاحم وتدافع الأهالي حول السيارة في محاولة للحصول على كرتونة، وهو ما وصفه البعض بـ"هجوم" عفوي مدفوع بالحاجة. في روايات أخرى، قُدم المشهد على أنه توثيق لعملية "توزيع" منظمة لمساعدات منسوبة لحزب "مستقبل وطن" كجزء من دعايته الانتخابية. بغض النظر عن دقة التوصيف، فإن الصورة تظل واحدة: استغلال الحاجة المادية للمواطنين في سياق انتخابي، وتحويل السلع الأساسية إلى أداة للتأثير على أصوات الناخبين. هذا المشهد، الذي يتكرر في قرى ومراكز فقيرة، يحوّل العلاقة بين المرشح والناخب من علاقة تمثيل ومحاسبة إلى علاقة "مانح" و"مستفيد"، مما يقوض أسس أي عملية ديمقراطية سليمة.
الشرقية: تكرار نمط "الإحسان" السياسي في غياب البرامج
لم يكن مشهد مغاغة فريدًا من نوعه، ففي محافظة الشرقية، رصد مراقبون ونشطاء نمطًا مشابهًا لتوزيع "الرشاوى العينية" في محيط اللجان الانتخابية وداخل القرى الأكثر احتياجًا. تحدثت شهادات متداولة عن توزيع كراتين مواد غذائية وبطاطين بهدف حشد الأصوات لصالح مرشحين بعينهم. وعلى عكس التغطيات الإعلامية الرسمية التي تركز على انتظام العملية الانتخابية وتوفير التسهيلات للناخبين، فإن هذه الممارسات الميدانية تكشف عن وجه آخر للمشهد، حيث يتم استغلال الفقر كأداة سياسية لتوجيه الإرادة الشعبية. إن هذا "الإحسان الانتخابي" لا يقتصر على كونه مخالفة للقانون فحسب، بل هو إفساد ممنهج للعملية السياسية، إذ يجعل ولاء الناخب مرهونًا بالمنفعة المادية اللحظية بدلاً من الاقتناع ببرنامج أو كفاءة المرشح.
المال السياسي: من "الوهم" الرسمي إلى الحقيقة الموثقة بالفيديو
في مواجهة هذه الوقائع الموثقة، يصر نواب وإعلاميون مقربون من السلطة على أن الحديث عن "المال السياسي" هو مجرد "وهم" ومحاولة لتشويه صورة الانتخابات. إلا أن الفيديوهات المنتشرة من مغاغة والشرقية تقدم دليلاً ملموسًا يناقض هذا النفي الرسمي. إن هذه المشاهد لا توثق فقط عملية توزيع السلع، بل تكشف عن آلية عمل كاملة تعتمد على شبكات المصالح واستغلال الظروف الاقتصادية الصعبة التي يعاني منها قطاع واسع من المصريين. وعندما يتم الجمع بين هذه الممارسات وبين السيطرة شبه الكاملة لحزب الأغلبية على المشهد، يصبح من الصعب الحديث عن منافسة حقيقية أو تكافؤ في الفرص.
غياب المنافسة وتكميم المعارضة: حين تصبح "الكرتونة" هي البرنامج
يتزامن تصاعد ظاهرة "الرشاوى الغذائية" مع مناخ سياسي عام يتسم بغياب التنافس الحقيقي. لقد شهدت الفترة التي سبقت الانتخابات استبعاد أسماء مرشحين معارضين بارزين، مما أثار انتقادات واسعة حول نزاهة العملية الانتخابية. في هذا السياق، وعندما يُغلق المجال العام أمام البرامج والأفكار المخالفة، وتُحجم المعارضة عن ممارسة دورها، لا يتبقى في الساحة سوى صوت واحد وأداة واحدة: المال. تصبح "الكرتونة" هي البرنامج الانتخابي، ويصبح الولاء لمن يملك القدرة على التوزيع، لا لمن يملك الرؤية والقدرة على التغيير. هذا الواقع لا يضعف المعارضة فحسب، بل يقتل السياسة نفسها.
مشهد انتخابي فاقد للثقة يعمّق أزمة التمثيل
إن ما تكشفه فيديوهات مغاغة والشرقية يتجاوز كونه مجرد مخالفات انتخابية، ليعبر عن أزمة ثقة عميقة بين المواطن والدولة، وعن تآكل متواصل في قيمة العملية الديمقراطية. فعندما يصبح صوت الناخب سلعة تباع وتشترى، وعندما تتحول الانتخابات إلى موسم لتوزيع "الهدايا العينية"، فإن البرلمان القادم سيعكس حتمًا هذه العلاقة المشوهة، وسيصبح ممثلاً لمصالح الأقوياء مالياً وسياسياً، لا معبرًا عن آمال وطموحات الشعب. إن استعادة الثقة في المسار الديمقراطي تتطلب أولاً وقبل كل شيء، وضع حد لهذه الممارسات التي تحتقر عقل وكرامة المواطن المصري.

