في تحول سياسي تاريخي، حسم المرشح الديمقراطي التقدمي زهران ممداني السباق على منصب عمدة مدينة نيويورك، ليصبح أول مسلم يتولى قيادة أكبر مدينة في الولايات المتحدة. هذا الفوز الساحق على الحاكم السابق أندرو كومو، الذي خاض الانتخابات كمستقل، لا يمثل فقط لحظة فارقة في تاريخ نيويورك، بل يعد مؤشراً قوياً على تحول أعمق في المشهد السياسي الأمريكي، حيث تتصاعد أصوات جيل جديد يطالب بتغيير جذري وسياسات ترتكز على العدالة الاجتماعية. إن انتصار ممداني، ابن المهاجرين الهنود من أوغندا البالغ من العمر 34 عامًا، هو تتويج لحملة شعبية تحدت المؤسسة السياسية التقليدية وبرهنت على قوة التنوع والأفكار التقدمية في مواجهة النفوذ المالي والسياسي.
 

دلالات الفوز وأسبابه
لم يكن فوز زهران ممداني مجرد صدفة انتخابية، بل نتاج ديناميكيات اجتماعية وسياسية عميقة تشهدها نيويورك والولايات المتحدة. يُعزى نجاحه بشكل أساسي إلى برنامجه اليساري الطموح الذي لامس هموم سكان المدينة، خاصة بعد سنوات من الضغوط الاقتصادية وتفاقم أزمة تكاليف المعيشة. تضمن برنامجه وعوداً جريئة مثل تجميد الإيجارات، وتوسيع شبكة النقل العام المجاني، وإنشاء بنوك طعام بلدية، ورفع الحد الأدنى للأجور. هذه السياسات استقطبت قاعدة واسعة من الناخبين الشباب والطبقة العاملة والأقليات الذين شعروا بالتهميش من قبل السياسات النيوليبرالية التي حكمت المدينة لعقود.

كما يمثل فوز ممداني هزيمة للمؤسسة الديمقراطية التقليدية التي مثلها أندرو كومو، السياسي المخضرم الذي هيمن على سياسة الولاية لسنوات قبل أن تطيح به فضائح التحرش الجنسي. لقد جسد ممداني طموحًا للتغيير ورغبة في تجاوز الوجوه السياسية القديمة، وهو ما منحه زخمًا كبيرًا بدءًا من فوزه المفاجئ في الانتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطي في يونيو 2025. بالإضافة إلى ذلك، فإن هويته كمسلم من أصول مهاجرة في مدينة متعددة الثقافات قد عززت من صورته كممثل حقيقي لنسيج نيويورك المتنوع، مما أضاف بعداً رمزياً قوياً لانتصاره. وصفت وسائل إعلام أمريكية وإسرائيلية هذا الفوز بأنه نقطة تحول في علاقة الحزب الديمقراطي مع إسرائيل، واعتبرته "هزيمة استراتيجية" لتل أبيب.
 

ترامب يقود جبهة الرفض
كان الرئيس السابق دونالد ترامب من أبرز وأشرس المعارضين لصعود ممداني، حيث كثف هجماته عليه عشية الانتخابات. وفي تصريح كاشف لمخاوفه، حذر ترامب قائلاً: "أوقفوا زهران ممداني... أو استعدوا لدفع الثمن". لم تكن معارضة ترامب لممداني شخصية فحسب، بل كانت موجهة ضد ما يمثله: مسلم ذو توجهات اشتراكية على رأس العاصمة المالية للرأسمالية الأمريكية. رأى ترامب في فوز ممداني المحتمل كارثة اقتصادية واجتماعية ستحل بنيويورك، معتبراً أن سياساته ستقوض مجد المدينة.

في المقابل، لم يتردد ممداني في الرد على هجمات ترامب وتأييد الأخير لمنافسه كومو. في حوار مع شبكة CNN، صرح ممداني أن ترامب وأمثاله من أصحاب النفوذ يدعمون كومو لأنهم "يعلمون أنه سيكون الدمية التي يريدونها" في منصب العمدة. هذا الرد الحاد أبرز الاستقطاب الأيديولوجي الحاد الذي ميز السباق الانتخابي، حيث وضع ممداني نفسه في موقع النقيض التام لترامب وسياساته اليمينية التي سبق وأن انتقدها بقوة، خاصة فيما يتعلق بقضايا الهجرة وحظر السفر على المسلمين.
 

ردود الفعل.. بين ترحيب تاريخي وقلق
ترددت أصداء فوز ممداني التاريخي في مختلف الأوساط السياسية الأمريكية، حيث تباينت ردود الفعل بين الترحيب الحافل والقلق. سارع الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى تهنئة العمدة المنتخب، مشيدًا بما وصفه بـ"اللحظة التاريخية التي تعكس روح الولايات المتحدة المتنوعة والديمقراطية".
كما أعرب السيناتور التقدمي البارز بيرني ساندرز عن حماسه للعمل مع ممداني، واصفاً فوزه بأنه "إحدى أكبر المفاجآت السياسية في التاريخ الأمريكي الحديث".

على الجانب الآخر، تقبل المنافسون النتيجة، حيث هنأ أندرو كومو ممداني على فوزه.
كما علق المرشح الجمهوري الخاسر، كورتيس سليوا، قائلاً: "نختلف سياسياً، لكننا نحترم إرادة الناخبين. أتمنى له التوفيق في إدارة مدينة صعبة بحجم نيويورك".
داخل الحزب الديمقراطي، عكس الفوز الانقسام بين الجناحين التقدمي والمعتدل؛ فبينما أعلن قادة مثل حكيم جيفريز دعمهم لممداني، كان دعم آخرين مثل تشاك شومر أكثر حذراً، مما يوضح التحديات التي قد يواجهها العمدة الجديد في توحيد صفوف حزبه.
 

"صنعنا التاريخ".. تصريحات ممداني ووعود المستقبل
عقب إعلان فوزه، أكد زهران ممداني على الرسالة الأساسية لحملته، متعهداً ببناء اقتصاد يعمل من أجل الجميع وليس فقط الأثرياء. بعد فوزه في الانتخابات التمهيدية، كان قد صرح قائلاً: "لقد صنعنا التاريخ الليلة... سأكون مرشح الحزب الديمقراطي لمنصب عمدة مدينة نيويورك"، وهو التصريح الذي مهد الطريق لانتصاره النهائي. من المتوقع أن يركز ممداني، الذي سيتولى منصبه رسميًا في الأول من يناير 2026، على تنفيذ برنامجه التقدمي الذي يشمل إصلاح الشرطة، والدفاع عن حقوق المهاجرين، وتحقيق العدالة الاجتماعية. لقد أوضح ممداني أن هدفه هو إعادة تشكيل العلاقة بين السلطة والمجتمع في أكبر مدينة أمريكية، مما يجعله أمام اختبار حقيقي لتطبيق رؤيته الطموحة على أرض الواقع.