لم تعد "هدنة غزة" سوى اسم بلا مضمون، بعدما حوّلها الاحتلال الإسرائيلي إلى غطاء سياسي لمواصلة جرائمه بوتيرة أشد تنظيمًا وأعمق تدميرًا. في ليلة واحدة فقط، دوّت الانفجارات في خان يونس والمحافظة الوسطى ومدينة غزة، فيما استهدفت قوات الاحتلال خيام النازحين بإطلاق نار مباشر، ونسفت المباني السكنية في عمليات ممنهجة تهدف إلى إبقاء القطاع في حالة رعب دائم وإفراغه من سكانه.

 

وبالتزامن، تشهد الضفة الغربية المحتلة أعنف موجة عنف منذ سنوات، تتقاطع فيها مصادرة الأراضي مع الاعتداءات الاستيطانية والاعتقالات الواسعة، في مشروع تهجير قسري واضح المعالم.

 

غزة: 591 خرقًا في 50 يومًا من "الهدنة"

 

الأرقام الرسمية تكشف حجم الكذبة؛ فخلال خمسين يومًا فقط من دخول وقف إطلاق النار حيز التنفيذ، ارتكب الاحتلال 591 خرقًا أسفرت عن استشهاد 357 فلسطينيًا، بمعدل يتجاوز 11 خرقًا يوميًا وسبعة شهداء كل 24 ساعة.

 

وفي يوم واحد فقط – الأحد 30 نوفمبر 2025 – سجّلت مصادر إعلامية فلسطينية 15 انتهاكًا جديدًا شملت قصفًا جويًا ومدفعيًا وإطلاق نار كثيف استهدف خيام النازحين في محيط الحي النمساوي غرب خان يونس، ونسف مباني ضخمة شرق المدينة ذاتها، وغارات جوية على مخيم البريج وسط القطاع، وقصف متكرر على شرق حي الشجاعية وحي التفاح شرق مدينة غزة.

 

هذه الخروقات لم تكن عشوائية، بل جزء من استراتيجية واضحة تهدف إلى تدمير ما تبقى من البنية السكنية، وترويع المدنيين لدفعهم نحو مزيد من النزوح، وتثبيت سيطرة عسكرية دائمة على مناطق واسعة تحت ما يسمى "الخط الأصفر" الذي يفرضه الاحتلال بالقوة.

 

1400 غارة جوية في شهر واحد

 

الأرقام العسكرية الإسرائيلية نفسها تعترف بحجم الإجرام المتواصل؛ فقد أعلن الجيش الإسرائيلي رسميًا أنه نفّذ أكثر من 1400 غارة جوية على قطاع غزة خلال شهر ديسمبر 2025 وحده، بمعدل 45 غارة يوميًا.

 

هذا الرقم يعني أن الاحتلال يشن غارة جوية كل نصف ساعة تقريبًا على مدار 24 ساعة، في "هدنة" يُفترض أنها تحمي المدنيين وتوقف الأعمال القتالية.

 

لكن الواقع يؤكد أن وقف إطلاق النار لم يكن سوى فرصة لإعادة ترتيب الأولويات العسكرية، حيث يواصل الاحتلال استهداف البنية التحتية والمنازل والمرافق المدنية تحت ذريعة "مواقع حماس"، فيما يُقتَل المدنيون ويُشرَّد مئات الآلاف في صمت دولي مريب.

 

الضفة الغربية: تصعيد استيطاني بلا رادع

 

بينما تُشغَل الأنظار بغزة، تتعرض الضفة الغربية لحملة تدمير ممنهجة تشمل مصادرة أراضٍ واسعة لتوسيع المستوطنات، واقتحامات يومية للمخيمات الفلسطينية – خاصة في الشمال – بهدف تهجير السكان، واعتداءات منظمة ينفذها المستوطنون تحت حماية الجيش تشمل إحراق منازل وسيارات وتقطيع أشجار الزيتون ونصب حواجز عشوائية للاعتداء على المارة.

 

في مخيم جنين وحده، استشهد شاب برصاص قوات الاحتلال خلال اقتحام المخيم، فيما قُتل طفلان (16 عامًا) بوابل من الرصاص الحي قرب جدار الفصل العنصري، واحتُجزت جثامينهم. هذه الاعتداءات لا تأتي معزولة، بل ضمن مخطط واضح لتفريغ الضفة من سكانها وفرض سيطرة استيطانية كاملة تقضي نهائيًا على أي أمل في قيام كيان فلسطيني مستقل.

 

إرهاب ممنهج تحت غطاء دولي

 

منظمة اليونيسف نفسها أقرّت بأن العدوان الإسرائيلي دمّر اقتصاد غزة تدميرًا كاملاً، ماحيًا سبعة عقود من التنمية، وحوّل القطاع إلى "حقل ألغام مرعب" من المخلفات الحربية التي قد تستمر خطورتها ما بين 20 و30 عامًا.

 

في هذا السياق، يواصل الاحتلال سياسته المزدوجة: قصف وتدمير في غزة تحت غطاء "هدنة" مزعومة، وتصعيد استيطاني وتهجير في الضفة تحت صمت دولي كامل.

 

الهدف واحد في الجبهتين: كسر إرادة الفلسطينيين وفرض واقع استعماري دائم بالقوة، بينما يدفع المدنيون الثمن وحدهم في غياب أي محاسبة حقيقية أو رادع دولي فعّال.