في حلقة جديدة من مسلسل التفريط في مقدرات الوطن، لم تعد حكومة الانقلاب تكتفي ببيع الشركات والمصانع الرابحة، بل امتدت يد "الجباية" لتطال شرايين الحياة الأساسية للمصريين.

 

ففي تصريحات كاشفة للنوايا الحقيقية للنظام، أعلن "عاطر حنورة"، رئيس وحدة الشراكة مع القطاع الخاص، بوزارة المالية عن طرح مشروعات استراتيجية في قطاعات الصحة والتعليم والمياه باستثمارات تتجاوز 1.1 مليار دولار.

 

تحت لافتة "الشراكة" البراقة، يُخفي النظام كارثة حقيقية: رهن الخدمات العامة للمواطن البسيط في يد المستثمر الأجنبي، بحثاً عن "الدولار" بأي ثمن لسد عجز الموازنة وسداد ديون القصور الرئاسية والمشاريع الفنكوشية.

 

التعليم والصحة.. سلع في سوق النخاسة

 

الكارثة الأكبر في هذا الطرح ليست فقط في قيمته المالية، بل في نوعية الأصول المستهدفة. الحديث عن طرح "5 إلى 6 مستشفيات" حكومية لإدارتها وتشغيلها من قبل القطاع الخاص يعني ببساطة رفع يد الدولة عن علاج الفقراء، وتحويل الخدمة الطبية إلى سلعة لمن يدفع. هذه المستشفيات التي بنتها أموال دافعي الضرائب المصريين ستتحول إلى مشاريع ربحية، يديرها مستثمر لا يعنيه سوى تعظيم العائد، لا صحة المواطن المطحون الذي لا يملك ثمن تذكرة العيادة الخاصة.

 

ولم يتوقف الأمر عند الصحة، بل امتد إلى التعليم، حيث كشف حنورة عن استئناف طرح "54 مدرسة" بنظام المشاركة. في بلد يعاني فيه التعليم الحكومي من التكدس والانهيار، بدلاً من أن تبني الدولة مدارس جديدة وتطور القائم منها، تقرر تسليم ملف التعليم لمستثمرين يبحثون عن الربح. هذا التوجه يكرس لطبقية التعليم ويحرم أبناء الفقراء من حقهم الدستوري في تعليم مجاني جيد، ليصبح التعليم الجيد حكراً على القادرين، وتتحول المدارس الحكومية إلى "خرابات" مهملة.

 

البنية التحتية.. رهن شريان الحياة

 

المشروع الثالث في القائمة هو "محطة تحلية مياه بالعلمين الجديدة" بتكلفة 180 مليون دولار. طرح محطات المياه للقطاع الخاص يعني وضع رقبة المواطن تحت رحمة شركات قد تتحكم في سعر كوب الماء مستقبلاً. إن خصخصة قطاع المياه، ولو جزئياً، هو خط أحمر في كل دول العالم التي تحترم أمنها القومي، لكن في "جمهورية السيسي"، كل شيء قابل للبيع، حتى الماء، طالما أن المشتري سيدفع بالدولار.

 

بيع الأوهام.. "الشراكة" غطاء للبيع المقنن

 

يستخدم النظام مصطلح "PPP" (الشراكة بين القطاعين العام والخاص) كستار دخاني لتمرير عمليات الخصخصة وتجنب الغضب الشعبي. الحقيقة أن هذه العقود، التي تمتد لسنوات طويلة، تمنح المستثمر حق الإدارة والتشغيل وجني الأرباح، بينما تتحمل الدولة (والمواطن) تكلفة المخاطر. المستثمر الأجنبي لن يأتي لبناء مدرسة أو مستشفى في قرية فقيرة، بل سيأتي ليقتنص الأصول في المناطق الواعدة والمدن الجديدة، تاركاً "العظم" للدولة و"اللحم" لمحفظته الاستثمارية.

 

خاتمة: نظام يبيع الحاضر ويرهق المستقبل

 

إن طرح أصول بقيمة 1.1 مليار دولار في شهر واحد، والحديث عن استثمارات بـ 90 مليار جنيه العام المقبل، يكشف عن "سعّار" بيع الأصول الذي أصاب حكومة الانقلاب. هذه السياسة ليست إصلاحاً اقتصادياً، بل هي "تصفية" ممنهجة للدولة المصرية، وتحويلها من دولة تقدم خدمات لمواطنيها إلى مجرد "جابي" يجمع الضرائب ليسدد بها أرباح المستثمرين الأجانب.

 

لقد نجح السيسي في تحويل مصر إلى "مزاد مفتوح"، حيث تُعرض المدارس والمستشفيات ومحطات المياه لمن يدفع أعلى سعر، في خيانة صريحة للعقد الاجتماعي ولحقوق الأجيال القادمة التي ستجد نفسها مدينة بلا أصول، ومريضة بلا علاج، وجاهلة بلا تعليم، وعطشى بلا ماء، في وطن بيع كل شبر فيه لسداد فاتورة فساد وفشل الجنرالات.