في مواجهة آلة البطش التي لا تعترف إلا بلغة الهدم والتهجير، قرر أهالي منطقة طوسون شرق الإسكندرية نقل معركتهم من الشارع إلى ساحات القضاء، في محاولة أخيرة ومستميتة لوقف "مجزرة عمرانية" تخطط لها حكومة الانقلاب. جلسة محكمة القضاء الإداري المقررة في 7 ديسمبر الجاري، ليست مجرد إجراء قانوني، بل هي استفتاء على شرعية "الاستيلاء" الحكومي على ممتلكات المواطنين. الطعن الذي قدمه الأهالي ضد قرار نزع ملكية 260 منزلاً و4 مساجد وكنيسة، يمثل صرخة قانونية في وجه نظام يرى في "المنفعة العامة" شماعة لخدمة مصالح المستثمرين، ويسعى لدهس حقوق 5 آلاف مواطن بجرة قلم من رئيس الوزراء.
الطعن يفضح "أكذوبة" المنفعة العامة
جوهر الطعن المقدم ينسف الرواية الحكومية من أساسها. فدفاع الأهالي قدم ما يثبت أن المشروع المزعوم (طريق يربط أبو قير بمحور المحمودية) يفتقر إلى ركن "المنفعة العامة"، وهو الشرط الأساسي لنزع الملكية. الحقيقة التي كشفها الطعن هي أن المنطقة مخدومة بالفعل بطريق قائم وكافٍ للحركة المرورية، وأن الطريق الجديد المخطط له "مفصل" خصيصاً لخدمة "مشروع سياحي خاص". هذا الانحراف بالسلطة يحول قرار نزع الملكية من إجراء إداري إلى "سمسرة" عقارية، حيث تستخدم الدولة نفوذها لطرد السكان الأصليين وتمهيد الأرض لرجال الأعمال، في انتهاك صارخ للدستور والقانون.
بدائل هندسية في سلة المهملات.. الإصرار على الخراب
ما يعزز موقف الأهالي في طعنهم هو امتلاكهم لبدائل عملية وعلمية. المكتب الاستشاري الهندسي الذي استعان به السكان قدم مساراً بديلاً للطريق يحقق الغرض المروري دون المساس بمنزل واحد أو تهجير أسرة واحدة. لكن الجهات التنفيذية، بعقليتها العسكرية المتعجرفة، ألقت بهذا المقترح في سلة المهملات ولم تكلف نفسها عناء الرد عليه. هذا التجاهل المتعمد للحلول يؤكد للمحكمة وللرأي العام أن الهدف ليس "التطوير" ولا "المرور"، بل هو الإزالة بحد ذاتها، كعقاب جماعي أو رغبة دفينة في إفراغ المنطقة من سكانها لصالح مخططات غير معلنة.
تقنين ثم هدم.. قمة التناقض الحكومي
إحدى أقوى النقاط التي يرتكز عليها الطعن هي الوضع القانوني للمباني المستهدفة. غالبية هذه المنازل الـ260 حاصلة على "تصالحات رسمية" من الدولة، ومزودة بكافة المرافق (كهرباء، مياه، غاز) بشكل قانوني. هذا التناقض الفج يفضح عشوائية القرار الحكومي؛ فالدولة التي حصلت الأموال من المواطنين لتقنين أوضاعهم بالأمس، هي نفسها التي ترسل لهم قرارات الهدم اليوم! المحامي محمد رمضان وصف هذا بأنه "انحراف في استعمال السلطة"، وهو توصيف قانوني دقيق لحالة من البلطجة الرسمية التي لا تحترم تعاقداتها ولا تعهداتها مع المواطنين.
اعتقال "صوت الأهالي".. محاولة بائسة للتأثير على العدالة
تأتي هذه المعركة القضائية في ظل أجواء إرهابية، حيث لم يتورع النظام عن اعتقال عبد الله محمد، المتحدث الرسمي باسم الأهالي وأحد أبرز المحركين للمسار القانوني والهندسي البديل. اختطافه من عمله وحبسه في سجن العاشر من رمضان بتهم ملفقة أمام نيابة أمن الدولة، هو محاولة مفضوحة لكسر شوكة الدفاع وتخويف بقية السكان قبل جلسة الحكم. لكن إصرار الأهالي على المضي قدماً في الطعن يثبت أن سياسة "تكميم الأفواه" لم تعد تجدي نفعاً أمام أصحاب الحقوق، وأن معركة طوسون ستظل مشتعلة في أروقة المحاكم حتى يُلغى القرار الجائر أو يُفضح الظلم أمام الجميع.