في مسرحية هزلية باتت تُعرض بانتظام في مقرات مجلس الوزراء، يواصل مصطفى مدبولي، رئيس حكومة الانقلاب، عقد اجتماعاته الشكلية لمتابعة ما يسمى بـ"وثيقة ملكية الدولة".
لكن خلف الأبواب المغلقة والبيانات الرسمية المنمقة، لا يدور الحديث عن "إصلاح اقتصادي" أو "تمكين للقطاع الخاص"، بل عن عملية "تصفية شاملة" لأصول وممتلكات الشعب المصري، وجرد ما تبقى من ثروات البلاد لعرضها في مزاد علني أمام دائني النظام، وعلى رأسهم الإمارات وصندوق النقد الدولي.
إنها ليست وثيقة لإدارة الملكية، بل قائمة "بيع اضطراري" لسداد ديون قائد الانقلاب عبدالفتاح السيسي الذي أغرق البلاد في أزمات متلاحقة، وبات مستعداً لبيع "الأرض وما عليها" من أجل الحصول على أي سيولة نقدية تُنقذه من شبح الإفلاس.
وثيقة ملكية الدولة أم "كتالوج التصفية الوطنية"؟
تحت شعارات رنانة مثل "تعظيم دور القطاع الخاص" و"تحسين التنافسية"، يختبئ الهدف الحقيقي لوثيقة ملكية الدولة: تحويل أصول الأمة إلى سلع جاهزة للبيع بأبخس الأثمان. لقد تحولت الوثيقة من خطة اقتصادية مفترضة إلى مجرد "كتالوج" تُعرض فيه شركات البنية التحتية والفنادق التاريخية والبنوك العامة، لتنتقي منها الصناديق السيادية الخليجية ما يروق لها، مقابل دولارات شحيحة تُستخدم مباشرة في سداد أقساط ديون لا علاقة للمواطن بها.
الأخطر من ذلك هو أن عملية البيع هذه تتم في ظل غياب تام لأي رقابة برلمانية أو مجتمعية. البرلمان الصامت تحول إلى مجرد "ختم مطاطي" يمرر كل ما تمليه السلطة التنفيذية، بينما تسيطر المؤسسة العسكرية على مفاصل الاقتصاد، وتتوسع إمبراطوريتها بشكل سرطاني، في وقت تُباع فيه شركات القطاع العام المدنية بحجة "عدم الكفاءة". إنه منطق معكوس: يتم التخلص من ملكية الشعب لتوسيع ملكية "الجنرالات"، في أكبر عملية إعادة توزيع للثروة لصالح الأقلية الحاكمة في تاريخ مصر الحديث.
"وحدة الهيكلة": شركة سمسرة حكومية لإعداد الأصول للبيع
الإعلان عن إنشاء "وحدة إعادة هيكلة الشركات المملوكة للدولة" برئاسة مساعد رئيس الوزراء، ليس سوى خطوة إجرائية لتسريع عملية التصفية. هذه الوحدة ليست لجنة إصلاح، بل هي أشبه بشركة "سمسرة" وظيفتها تجميل البضاعة وتجهيزها للبيع، وفصل الأصول الجيدة عن السيئة، وإعداد الملفات التي ستُعرض على المستثمرين الأجانب وصندوق النقد الدولي.
وعندما تتحدث الحكومة عن "عدم المساس بالأصول الاستراتيجية"، فإنها تمارس خداعاً لغوياً مفضوحاً. فتعريف "الاستراتيجي" يتقلص مع كل أزمة سيولة، ومع كل زيارة لوفد من صندوق النقد. ما كان استراتيجياً بالأمس، يصبح قابلاً للبيع اليوم تحت ضغط الحاجة الماسة للدولار. والهدف الحقيقي ليس "تعظيم العائد" كما يدعون، بل "التسييل الفوري" بأي ثمن، حتى لو كان ذلك يعني التفريط في أصول لا تقدر بثمن مقابل حفنة من الدولارات تذهب مباشرة إلى خزائن الدائنين.
على ركبتيه أمام الصندوق: بيع سيادة مصر مقابل 2.7 مليار دولار
يأتي اجتماع مدبولي الأخير في توقيت شديد الحساسية، قبيل وصول وفد فني من صندوق النقد الدولي، الذي بات يتصرف كـ"المفوض السامي" الاقتصادي في مصر. المفاوضات المتعثرة منذ خمسة أشهر لم تتوقف بسبب خلافات فنية، بل بسبب رفض الصندوق لتباطؤ النظام في تنفيذ "أوامر البيع". لقد انتقد تقرير المراجعة الرابعة للصندوق بشدة هذا التباطؤ، وخفض توقعاته لحصيلة الخصخصة من 3 مليارات دولار إلى 600 مليون فقط، في صفعة مدوية تعكس انعدام الثقة في جدية النظام.
الآن، تسعى حكومة الانقلاب لانتزاع اتفاق سريع يسمح بصرف شريحة بـ2.7 مليار دولار، إضافة إلى أموال أخرى. لكن الثمن معروف سلفاً: التزام كامل وجدول زمني واضح لبيع قائمة جديدة من الأصول، ووقف توسع إمبراطورية الجيش الاقتصادية. النظام اليوم في مأزق: إما أن يغضب المؤسسة العسكرية المسيطرة، أو يغضب صندوق النقد الذي يمسك بصمام الحياة المالي. والحل الذي يرتضيه دائماً هو التضحية بأصول الشعب.
بيع ميراث المصريين لتمويل "أوهام العاصمة الإدارية"
لماذا كل هذا اللهث المحموم لبيع الأصول؟ الإجابة لا تكمن فقط في ضغط الديون، بل في الإصرار المرضي على تمويل "مشروعات الهوس الشخصي" لقائد الانقلاب. ففي الوقت الذي تعجز فيه الحكومة عن توفير أبسط الخدمات، يعلن السيسي عن تأسيس "مدينة جديدة للإنتاج الإعلامي" في العاصمة الإدارية، وغيرها من المشروعات الترفيهية والبذخ التي تكشف عن أولويات مقلوبة تماماً.
إن أموال بيع أصول المصريين لا تذهب لسداد الديون فحسب، بل تُستخدم لتمويل قصور رئاسية وطرق لا يستخدمها إلا الأغنياء ومشاريع تهدف لترسيخ صورة "الزعيم الملهم"، بينما يغرق المواطن في وحل الغلاء والفقر. إنها معادلة حكم واضحة: بيع ما يملكه الشعب لتمويل ما يحلم به الحاكم.
الخاتمة: سرقة وطن في غياب أهله
في ظل برلمان صوري وصحافة مكبلة، تتم أكبر عملية "تجريد" لممتلكات المصريين في وضح النهار. الحكومة تتصرف وكأنها تدير "تركة" بلا وريث، فتجرد الأصول وتبيعها لمن يدفع أكثر، دون حسيب أو رقيب. وبينما تتوسع قبضة الجنرالات على كل شيء من البنية التحتية إلى إنتاج المعكرونة، تُباع كنوز الدولة بحجة "التحديث" و"الإصلاح". الحقيقة أن ما يجري ليس إصلاحاً، بل هو إعلان إفلاس أخلاقي وسياسي لنظام فشل في كل شيء إلا في فن بيع الأوطان بالقطعة.

