لم يكن منع الصحفيين من تغطية جولة الإعادة لانتخابات "برلمان السيسي" في الدوائر الملغاة مجرد إجراء روتيني أو "سوء فهم" إداري، بل هو قرار سياسي مركزي بـ"إطفاء الأنوار" وإسدال ستار حديدي حول لجان الاقتراع، ليتسنى للنظام وأجهزته ممارسة هندسة النتائج في الظلام الدامس.

 

البيان الصادر عن نقابة الصحفيين اليوم، والذي وثق عشرات الشكاوى من مختلف المحافظات، يمثل وثيقة إدانة دامغة لا تكشف فقط عن انتهاك حرية الصحافة، بل تؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أن ما يجري داخل اللجان هو "جريمة" يخشى النظام من توثيقها.

 

عندما يُمنع الصحفي الذي يحمل تصريحاً رسمياً من الهيئة الوطنية للانتخابات بدعوى الحاجة لـ"تصريح أمني"، وعندما يتحول القاضي - المؤتمن على العدالة - إلى "حارس أمن" يطرد المراقبين، فهذا يعني أننا لسنا أمام عملية انتخابية، بل أمام عملية سطو مسلح على إرادة الناخبين.

 

دولة "التعليمات الأمنية" فوق القانون والهيئة الوطنية

 

الشكاوى التي رصدتها النقابة تكشف عن حقيقة مرعبة: الهيئة الوطنية للانتخابات ليست سوى واجهة ديكورية بلا سلطة حقيقية. فبينما يعلن مدير جهازها التنفيذي، أحمد بنداري، عن تعليمات بتسهيل عمل الصحفيين، يضرب ضباط وزارة الداخلية بهذه التعليمات عرض الحائط على أبواب اللجان.

 

اشتراط الحصول على "تصريح من وزارة الداخلية" للتصوير، رغم وجود تصريح الهيئة الوطنية، هو اعتراف صريح بأن الداخلية هي الحاكم الفعلي، وأن القانون والدستور وتصاريح الهيئة لا تساوي الحبر الذي كُتبت به أمام "التعليمات الأمنية". في سوهاج والجيزة وقنا، كان الضابط هو من يقرر من يدخل ومن يخرج، وليس رئيس اللجنة، في مشهد يلغي تماماً مبدأ استقلال العملية الانتخابية ويضعها تحت الوصاية البوليسية المباشرة.

 

"أنا صاحبة القرار": قضاة يتحولون إلى خصوم للحقيقة

 

لعل أخطر ما ورد في بيان النقابة هو تورط بعض رؤساء اللجان من القضاة في عملية المنع والقمع. ففي مدرسة "مدينة العمال" بقنا، وقفت رئيسة اللجنة لتمنع صحفيين من مؤسسات مختلفة (فيتو، الفجر، أ ش أ) قائلة بصلف: "أنا صاحبة القرار"، وكأن اللجنة عزبة خاصة وليست مرفقاً عاماً يخضع للرقابة.

 

هذا السلوك العدائي من قبل بعض القضاة تجاه الصحافة يطرح تساؤلات مشروعة حول نزاهة هؤلاء وحيادهم. لماذا يخشى القاضي النزيه من الكاميرا؟ ولماذا يصر على طرد الصحفيين إلا إذا كان هناك ما يريد إخفاءه؟ إن تحول المنصة القضائية إلى أداة للقمع ومنع الشفافية هو المسمار الأخير في نعش الثقة بأي إشراف قضائي في ظل حكم العسكر.

 

بلطجة في الفيوم والإسكندرية: الترهيب البدني للصحفيات

 

لم يقتصر الأمر على المنع الإداري، بل وصل إلى حد البلطجة والترهيب الجسدي، خاصة ضد الصحفيات. ما حدث في "مدرسة سيلا" بالفيوم، حيث تعرضت ثلاث صحفيات للمضايقات ومحاولة تمزيق تصاريحهن من قبل "أنصار أحد المرشحين" تحت سمع وبصر القضاة والأمن، يعكس حالة الانفلات المتعمد.

 

وفي الإسكندرية، تم توجيه الصحفيين إلى "مناطق نائية" بعيداً عن اللجان الحقيقية، بينما سُمح فقط لكاميرات التلفزيون الرسمي (التي تنقل الصورة التي يريدها النظام) بالدخول. هذا الانتقاء يؤكد وجود "سيناريو" مسبق للإخراج التلفزيوني، حيث يُراد تصدير صورة مزيفة عن "النزاهة" و"الإقبال"، بينما يتم طرد أي صحفي قد يلتقط صورة لطوابير الرشاوى أو خلو اللجان أو توجيه الناخبين.

 

الخلاصة: تزوير في غرف مغلقة

 

صرخة نقابة الصحفيين ومطالبتها بتمكين الزملاء من حضور الفرز وإعلان النتائج، هي صرخة تحذير أخيرة. فالمنع من التغطية الآن هو مقدمة لما سيحدث في "الغرف المغلقة" أثناء الفرز. النظام يعلم أن وجود صحفي واحد بكاميرا قد يفسد "الطبخة" التي يتم إعدادها لتوزيع المقاعد على المحاسيب ورجال الأعمال الموالين.

 

إن إصرار حكومة الانقلاب على حجب الحقيقة، وقمع الشهود، وإرهاب الصحفيين، هو الدليل الأقوى على أن هذه الانتخابات ليست إلا "مسرحية باطلة". فمن يملك الشعبية لا يخشى الكاميرا، ومن يملك الشرعية لا يحتاج لـ"تصريح أمني" ليخفي صناديق الاقتراع عن عيون الشعب.