في اليوم العالمي لحقوق الإنسان، لا تحتاج مصر إلى شعارات ولا خطابات رسمية من حكومة الانقلاب، بل تحتاج إلى النظر في مرآة الحقيقة التي يضعها أمام الجميع تقرير "حصاد الظلم" الصادر عن منظمة "هيومن رايتس إيجيبت". التقرير لا يتحدث عن "تجاوزات فردية" أو "أخطاء محدودة"، بل عن منظومة قمع مكتملة الأركان تشكلت منذ لحظة انقلاب يوليو/تموز 2013 على أول رئيس مدني منتخب، وتحولت إلى ماكينة سحق مستمرة لأكثر من 12 عامًا ضد أي صوت يرفع شعار يناير: "عيش، حرية، عدالة اجتماعية".
منذ ذلك اليوم، كما يوثّق التقرير، لم يعد الانقلاب مجرد واقعة سياسية، بل صار نمط حكم قائم على تصفية المجال العام، وتجريم المعارضة، وتحويل مؤسسات الدولة – الجيش والشرطة والقضاء – إلى أذرع متكاملة في مشروع واحد: الانتقام من ثورة يناير، وإخضاع مجتمع كامل بالخوف والسجون والقبور المجهولة.
انقلاب 2013.. لحظة كاشفة لعداء الدولة للشعب
يرى التقرير أن انقلاب 2013 كان لحظة "كاشفة" أكثر مما كان "مؤسسة"؛ إذ أظهر بوضوح حجم العداء البنيوي داخل مؤسسات القوة لمطلب الحكم المدني. ما ظهر بعد ذلك لم يكن "انحرافًا طارئًا"، بل ترجمة عملية لرؤية تعتبر الشعب خصمًا محتملاً يجب ضبطه بالقمع، لا شريكًا في إدارة الدولة.
هذا العداء تجلّى في تفكيك أي تعبير مستقل عن إرادة الناس: أحزاب، نقابات، حركات شبابية، إعلام، مجتمع مدني. كل ما خرج من رحم يناير تعرّض للاستئصال أو التدجين، تحت غطاء قانوني وإعلامي كثيف، يبرر الإبادة السياسية باسم "الحرب على الإرهاب" و"حماية الدولة".
الإخفاء القسري.. من جريمة إلى سياسة دولة
يوثّق "حصاد الظلم" 20,344 حالة اختفاء قسري بين منتصف 2013 ونهاية أكتوبر 2025، بينهم 1,333 مختفيًا في عام 2025 وحده. هذه الأرقام لا تعكس "حالات شاذة"، بل تؤكد تحول الإخفاء القسري إلى أداة أمنية مركزية في يد الدولة لإرهاب المجتمع، وكسر أي إمكانية لعودة الحراك.
ظهور بعض المختفين بعد خمس أو ست سنوات من الاحتجاز السري في مقار غير قانونية، بلا عرض على نيابة ولا محاكمة، يكشف حجم الانفلات الأمني وانهيار أي رقابة قضائية حقيقية. نحن أمام دولة تُشرعن الخطف، وتُجرّم السؤال عن مصير المخطوفين، وتطلب من الأهالي الصمت أو الصبر بينما أبناؤهم في المجهول.
قضاء يتحول إلى مقصلة جماعية
1613 حكمًا بالإعدام، نُفذ منها 105 أحكام – معظمها في قضايا سياسية ومحاكمات جماعية تفتقد لأبسط معايير العدالة – ليست إحصائية عابرة، بل عنوان لعسكرة القضاء وتحويله إلى مقصلة في يد السلطة التنفيذية. الطفرة الحادة في أحكام الإعدام خلال عام 2024، كما يشير التقرير، تعكس بوضوح تصاعد استخدام القضاء كأداة انتقام، لا كسلطة مستقلة للفصل في النزاعات.
في هذا السياق، يفقد المواطن أي ثقة في العدالة، ويصبح القاضي في نظر الضحايا جزءًا من ماكينة القمع، لا حائط صدّ أمام تغوّل الأجهزة الأمنية. هكذا يكتمل مثلث القمع: أمن يعتقل ويخفي، نيابة تُشرعن، وقضاء يصدر الأحكام وفق هوى السلطة.
"التدوير": سجن بلا نهاية
يصف التقرير "جرائم التدوير" بأنها من أخطر الأدوات التي اخترعتها السلطة لضمان بقاء المعارضين خلف القضبان إلى ما لا نهاية. 2744 حالة تدوير بين 2018 و2021، ثم 229 حالة في 2023، و206 حالات موثقة في النصف الأول من 2024، أرقام تكفي لإثبات أننا أمام سياسة ممنهجة، لا اجتهادات فردية.
الضحية لا يخرج من السجن عمليًا؛ تنتهي قضيته الأولى على الورق، ليجد نفسه متهمًا في قضية جديدة بنفس الاتهامات تقريبًا: "الانضمام"، "نشر أخبار كاذبة"، "إساءة استخدام وسائل التواصل". صحافيون، محامون، أطباء، نشطاء، نساء، قُصّر… الكل ضمن دائرة استهداف واحدة، هدفها رسالة واضحة: السجن بلا سقف زمني، والخروج مشروط بالاستسلام الكامل أو الموت.
سجون تتحول إلى مقابر
1266 وفاة داخل السجون ومقار الاحتجاز بين 2013 و2025، نتيجة التعذيب والإهمال الطبي والظروف القاسية، يجعل من السجون المصرية – وفق تعبير المنظمة – "بيئة قاتلة" للمعارضين. نحن لا نتحدث عن "سوء إدارة"، بل عن استخدام الحرمان من العلاج وسوء التغذية والتكدس والاحتجاز الانفرادي كأدوات قتل بطيء.
تكدس شديد، منع زيارات، حرمان من الدواء، طعام لا يليق حتى بالحيوانات، وحبس انفرادي مطوّل يُستخدم كتعذيب نفسي وجسدي. في ظل هذا الواقع، تصبح كل وفاة داخل السجن جريمة مع سبق الإصرار، لا حادثًا عرضيًا.
نساء ونواب.. لا خطوط حمراء للقمع
450 امرأة وفتاة معتقلة سياسيًا، وفق التقرير، يتعرضن للتفتيش المهين، والتحرش الجسدي واللفظي، والحرمان من الرعاية الصحية والتعليم، والمنع من السفر، ومصادرة الممتلكات. استهداف النساء بهذه الصورة يكشف أن النظام لم يترك أي "خط أحمر" أخلاقي أو اجتماعي، وأن الانتقام من يناير يشمل كل من شارك فيها رجالاً ونساءً.
حتى البرلمانيون الذين يُفترض أن يتمتعوا بحصانة، لم يسلموا؛ 101 نائب منتخب يقبعون في السجون، توفي 11 منهم بسبب الإهمال الطبي، مع أحكام قضائية ضد ثلاثة آخرين. هذه الأرقام تكشف انهيار مبدأ الفصل بين السلطات، وتحوّل البرلمان نفسه إلى هدف من أهداف تصفية الحياة السياسية.
يوم عالمي لحقوق الإنسان.. وواقع يفضح النظام
في العاشر من ديسمبر، تحتفل دول العالم بذكرى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، بينما تقدّم مصر – كما يرصد التقرير – نموذجًا مضادًا لكل ما جاء في تلك الوثيقة. دولة تهمّش القانون، وتعاقب المعارضة، وتحجب الكرامة الإنسانية عن عشرات الآلاف من السجناء وأسرهم، لا يمكنها أن تتحدث بجدية عن "إصلاح" أو "حوار وطني" أو "جمهورية جديدة".
"حصاد الظلم" يخلص إلى أن النظام القائم لم يرَ في الشعب إلا خصمًا يجب إخضاعه، ولا في ثورة يناير إلا عدوًّا يجب الانتقام منه. وأي حديث عن انتقال حقيقي لا يمكن أن يبدأ قبل كشف مصير المختفين، ومحاسبة المسؤولين عن التعذيب والقتل، وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين، واستعادة القضاء لاستقلاله. دون ذلك، سيبقى اليوم العالمي لحقوق الإنسان في مصر مجرّد تاريخ على الورق، فوق مقابر مفتوحة وسجون مكتظة وبلد يحكمه الخوف.

