في مؤشر خطير يتجاوز كونه مجرد أزمة عابرة، دخلت الأسواق المصرية مرحلة "الموت السريري"، حيث ضرب الركود التضخمي كافة مفاصل الحياة الاقتصادية، محولًا المحلات التجارية والمصانع إلى أماكن مهجورة ومخازن للبضائع المكدسة. البيانات الصادمة التي نشرتها صحيفة "الشروق" ليست مجرد أرقام، بل هي إعلان رسمي عن فشل النموذج الاقتصادي الذي تبناه نظام الانقلاب، والذي قام على الجباية وسحق القدرة الشرائية للمواطن، حتى وصل الحال بالتاجر إلى أن يبيع بخسارة "تسييلاً للبضائع"، وبالمستهلك إلى العجز عن شراء أبسط أساسيات الحياة.
إن ما تشهده مصر اليوم هو "مذبحة اقتصادية" مكتملة الأركان. فحين تهبط مبيعات قطاعات حيوية بنسبة تصل إلى 60%، وتتراجع مبيعات الأغذية – وهي عصب الحياة – بنسبة 35%، فهذا يعني أن الشعب لم يعد يملك قوت يومه، وأن سياسة "التجويع الممنهج" قد آتت أكلها المر، مخلفة وراءها كسادًا غير مسبوق يهدد بإفلاس آلاف الشركات وتشريد ملايين العمال.
الأغذية والدواجن.. عندما يعجز الشعب عن الأكل
الكارثة الأكبر تكمن في قطاع الغذاء. التقرير يشير إلى تراجع مبيعات الأغذية بنسبة 35%، وهو رقم مرعب في دولة نامية ينفق مواطنوها غالبية دخلهم على الطعام. الأخطر من ذلك هو ما يحدث في قطاع الدواجن والبيض، حيث يضطر المنتجون للبيع بأسعار تقل عن التكلفة بنسبة 14% . هذا ليس "رخصًا" كما قد يروج إعلام النظام، بل هو "انتحار اقتصادي" للمنتجين الذين يفضلون الخسارة القريبة على الخسارة الكلية، مما ينذر بخروجهم من السوق نهائيًا، وبالتالي حدوث فجوة غذائية كارثية وارتفاع جنوني في الأسعار مستقبلاً.
إن عجز المواطن عن شراء البيض والدواجن، رغم بيعها بأقل من التكلفة، يكشف الحقيقة المرة: الجيوب فارغة تمامًا، والطبقة الوسطى سُحقت تحت عجلات الغلاء، ولم يعد أمام الأسرة المصرية سوى تقليص وجباتها والعيش على الكفاف.
تسييل البضائع.. تجار يبيعون "جلودهم" للنجاة
في مشهد يعكس عمق المأساة، يلجأ تجار "قطاع المحمول" إلى بيع الأجهزة بأقل من سعر الجملة فقط لتوفير سيولة نقدية (تسييل البضائع) . هذه الظاهرة الشاذة اقتصاديًا تؤكد أن السوق يعاني من "جفاف نقدي" حاد، وأن التاجر بات يضحي برأسماله فقط ليسدد التزاماته أو ليهرب من السوق بأقل الخسائر.
نفس الحال ينطبق على شركات السلع المعمرة والأجهزة الكهربائية، التي تحتفظ بمخزون باهظ التكلفة يمنعها من خفض الأسعار، بينما يقرر المستهلكون تأجيل الشراء إلى أجل غير مسمى. هذا "الركود غير المسبوق" يعني توقف دورة رأس المال، وتسريح العمالة، وإغلاق المحلات، في متوالية انهيار لا يبدو أن لها نهاية في الأفق.
الرواتب الثابتة والأسعار الطائرة.. معادلة القهر
يضع الخبراء يدهم على الجرح النازف: "ضعف القدرة الشرائية وتآكل الدخول هو السبب الرئيسي للركود". فكيف لمواطن قفزت أسعار بعض السلع في وجهه بنسبة 1000%، بينما راتبه "شبه ثابت" ، أن يحرك عجلة السوق؟
لقد نجحت حكومة السيسي في خلق معادلة مستحيلة: أسعار عالمية (بل وتفوق العالمية) ورواتب من أدنى الرواتب في العالم. هذه الفجوة الهائلة لم تبتلع مدخرات المصريين فحسب، بل ابتلعت قدرتهم على الاستمرار في الحياة الكريمة. النظام الذي ركز كل جهوده على بناء الحجارة والكباري والقصور، نسي – أو تناسى – أن "البشر" هم محرك الاقتصاد، وحين يفقرهم، يموت السوق وتموت الدولة.
نهاية الوهم
إن حالة "الشلل التام" التي تضرب الأسواق اليوم هي شهادة وفاة لسياسات الانقلاب الاقتصادية. فما فائدة الطرق والمدن الجديدة إذا كان الشعب عاجزًا عن شراء كيلو طماطم أو طبق بيض؟ وما جدوى التصريحات الوردية عن النمو إذا كانت المصانع تتوقف والتجار يفلسون؟
مصر اليوم تدفع ثمن سنوات من القرارات العشوائية والاقتراض السفيه، والنتيجة هي سوق بلا مشترين، وتجار بلا أرباح، ومواطنون بلا أمل. إنه "الخراب العظيم" الذي حذر منه المخلصون، وها هو يقع فوق رؤوس الجميع، بينما السلطة لا تزال في غيها تعمه.

