المشاهد التي رافقت الانتخابات البرلمانية الأخيرة ليست مجرد تجاوزات عابرة، بل شهادة إدانة كاملة لنظام انتخابي فاسد ترعاه سلطة لا تريد برلمانًا يمثل المصريين بل طبقة من أصحاب المال والنفوذ. ما جرى من إلغاء نتائج في دوائر، وترك شبكة المال السياسي تعمل بلا حساب، يكشف أن المشكلة أعمق بكثير من "أخطاء فردية" أو "تجاوزات محدودة".

 

الانتخابات تحولت، بشهادة ما حدث في المرحلتين الأولى والثانية، إلى سوق مفتوح لشراء الأصوات لا ساحة تنافس برامجي أو سياسي. حين تضطر الجهات المنظمة إلى إلغاء النتائج في دوائر كاملة، فهذا يعني أن حجم الرشاوى والتلاعب بلغ درجة الفضيحة، لكن رد فعل السلطة توقف عند "إعادة التصويت" دون الاقتراب من أصل الداء: من أين جاء هذا المال؟ ومن يحمي أصحابه؟

 

يرى الدكتور حسن نافعة، أستاذ العلوم السياسية، أن الانتخابات في ظل تغول المال والنفوذ تتحول إلى "إجراء شكلي" يمنح غطاء ديمقراطيًا مزيفًا لنظام يستند عمليًا إلى القوة الأمنية والمال السياسي، لا إلى الإرادة الشعبية الحرة.

 

مزادات انتخابية في الصعيد وشراء الفقر بالجملة

 

في محافظات الصعيد وبعض الدوائر الريفية، خرجت العملية عن كل ما له صلة بالسياسة وتحولت إلى "مزادات علنية" على أصوات الفقراء. عائلات كاملة عُرضت عليها مبالغ و"هدايا" تفوق بكثير الدخل المعلن للمرشحين، في استغلال مباشر للجوع وضيق الحال كي يُفرض على الناس "مرشح رأس المال" بدل مرشح الكفاءة.

 

يؤكد الدكتور عمرو هاشم ربيع، الخبير في النظم الانتخابية، أن ما حدث يمثل "منظومة شراء منظم" لا حالات فردية، مشيرًا إلى أن غياب السقف الواقعي للإنفاق الانتخابي، وغياب الرقابة الفعلية على مصادر التمويل، خلق طبقة من "تجار السياسة" يعتبر كل مقعد استثمارًا سيُسترد أضعافًا من النفوذ والصفقات بعد دخول البرلمان.

 

أجهزة صامتة وثراء مفاجئ بلا مساءلة

 

القانون يلزم المرشحين بكشوف التمويل، لكن الواقع يفضح فجوة مهينة بين ما يُعلن على الورق وما يراه الناس في الشارع من يافطات، مواكب، وجيوش من السماسرة والسيارات والرشاوى العلنية. السؤال البسيط: أين الجهات الرقابية من هذا الثراء الذي يهبط على بعض المرشحين فجأة مع كل موسم انتخابي؟ ولماذا لا يُفتح ملف الذمة المالية لهؤلاء قبل السماح لهم أصلاً بالترشح؟

 

يرى الدكتور مصطفى كامل السيد أن صمت الأجهزة على هذه الظاهرة يطرح احتمالين لا ثالث لهما: إما فشل ذريع في القيام بالدور، أو تواطؤ متعمد مع شبكات المال السياسي التي يُراد لها أن تسيطر على البرلمان لضمان "ولاء" الأغلبية لأي سياسات تقررها السلطة التنفيذية، مهما كانت على حساب المواطنين.

 

شرعية منقوصة ونظام يخاف من برلمان حر

 

تفشي المال السياسي لا يفسد فقط عملية التصويت، بل ينسف من الأساس مفهوم "التمثيل الشعبي". حين يصبح مقعد البرلمان "صفقة" تُشترى، يصبح النائب مدينًا لمن موّل حملته لا لمن انتخبه، ويتحوّل الدور التشريعي والرقابي إلى مجرد ديكور في مسرح مغلق. هكذا تُصنع أغلبية مضمونة سلفًا، لا تسأل عن مصدر الأموال، ولا تحاسب الحكومة، ولا تمثل إلا مصالح رجال الأعمال وشبكات النفوذ.

 

يصف الدكتور عمار علي حسن هذه المنظومة بأنها "اقتصاد سياسي للفساد"، حيث يتزاوج المال مع السلطة في دائرة مغلقة، ويُستبعد المجتمع والقوى الحية من أي دور حقيقي، مما يراكم الاحتقان ويفتح الباب لانفجار اجتماعي كلما ضاقت مساحة التنفيس القانوني والسياسي.

 

ما يزيد فداحة المشهد أن رأس السلطة نفسه أبدى امتعاضًا من بعض ما شاب العملية، وأُعلن عن "فيتو" على نتائج دوائر بعينها، ومع ذلك توقفت الدولة عند إعادة الاقتراع ولم تقترب من "بطن الملف": من مول؟ ومن غطى؟ ومن سمح بهذا الانفلات؟

 

يؤكد عدد من الخبراء أن أي حديث عن "جمهورية جديدة" يفقد معناه حين تُترك جمهورية المال السياسي والرشاوى بلا تفكيك أو محاسبة، وحين تتحول الانتخابات إلى محطة لتبيض الأموال مجهولة المصدر بدل أن تكون أداة لمحاسبة الفاسدين. استمرار هذا النمط يعني ببساطة أن النظام لا يريد برلمانًا قويًا مستقلًا، بل مجلسًا تُدار تركيبته في الغرف المغلقة، ويُحسم مصيره بحقيبة أموال لا بورقة اقتراع.