في مهزلة جديدة تضاف إلى سجل "الجمهورية الجديدة"، أصدر المجلس القومي لحقوق الإنسان، الواجهة الرسمية التي تستخدمها سلطة الانقلاب لتجميل صورة قائد الانقلاب عبدالفتاح السيسي، تقريره السنوي معلنًا عن "تحسن" مزعوم في ملف الحقوق والحريات.

 

لكن هذا التقرير، الذي تكلف إعداده وطباعته ملايين الجنيهات من ميزانية المجلس البالغة 75 مليون جنيه، ليس سوى حبر على ورق، ووثيقة إدانة لنظام يستخدم مؤسسات الدولة كـ"شاهد زور" على جرائمه.

 

فخلف صياغاته المنمقة وأرقامه الانتقائية، تصرخ الزنازين بالمعتقلين، وتئن أسر المختفين قسريًا، وتكشف شهادات الحقوقيين المستقلين أن ما يجري ليس "تحسنًا"، بل هو "تطبيع ممنهج مع الانتهاك" وإعادة إنتاج للقمع بأدوات تبدو مدنية.

 

مسرحية "التدخلات": حين يُمنع المجلس من عمله ويسجِّل صمتاً

 

يكشف التقرير، عن غير قصد، عن حجم الإذعان الذي وصل إليه المجلس القومي لحقوق الإنسان، وتحوله من هيئة رقابية إلى مجرد "ساعي بريد" لدى الأجهزة الأمنية. أبرز مثال على ذلك هو ما ورد بشأن زيارة المجلس لسجن القناطر للاطمئنان على المحامية والعضوة السابقة بالمجلس هدى عبد المنعم.

 

التقرير يذكر الزيارة كـ "إنجاز"، لكنه يتجاهل عمداً حقيقة أن أعضاء المجلس "مُنعوا" من مقابلتها، في انتهاك صارخ للقانون الذي يمنحهم هذا الحق.

 

وهنا يعلق مدير المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، حسام بهجت، قائلاً إن هذا لا يعتبر "تدخلاً"، بل "تطبيعاً مع المنع". فالمجلس الذي يُهان ويُمنع من ممارسة أبسط صلاحياته ثم يصمت، لا يقوم بدوره، بل يشارك في ترسيخ قواعد اللعبة الأمنية التي لا تسمح بأي رقابة حقيقية.

 

هذا الصمت المريب يحول "الزيارات" المزعومة من آلية كشف للانتهاكات إلى غطاء للتستر عليها، ويؤكد أن المجلس لم يعد يملك من أمره شيئاً سوى تسجيل "الحضور الشكلي" في مسرحية هزلية من إخراج الأجهزة الأمنية.

 

تلاعب بالأرقام وتجاهل للملفات الحساسة

 

يمارس التقرير لعبة "الأرقام الانتقائية" بوقاحة فجة. فهو يتحدث عن تراجع حالات القبض التعسفي، بينما الواقع يؤكد استمرار ظاهرة "التدوير" التي تبقي المتهمين في دوامة حبس احتياطي لا تنتهي، حتى بعد صدور قرارات إخلاء سبيلهم.

 

والأسوأ من ذلك، أنه يشيد بالإفراج عن شخصيات مثل المرشح الرئاسي السابق أحمد الطنطاوي ومدير حملته محمد أبو الديار، دون أن يذكر الحقيقة الكاملة: أن الإفراج جاء بعد قضاء مدة العقوبة كاملة في قضية سياسية بامتياز، هدفها كان إقصاء أي منافس محتمل للسيسي. هذا التدليس يحول عقوبة سياسية إلى "مكرمة" من النظام، وهو تزييف للحقائق لا يليق بأي هيئة تدعي الدفاع عن حقوق الإنسان.

 

وعلى الصعيد الاقتصادي والاجتماعي، يقع التقرير في تناقض فاضح، حيث يمتدح زيادة مخصصات الصحة والتعليم كـ"إنجاز"، رغم إقراره لاحقاً بعدم تقييم مؤشرات الإنفاق، ورغم اعترافات رسمية سابقة بعجز الدولة عن الوفاء بالاستحقاقات الدستورية في هذين القطاعين. كل هذا يترافق مع تجاهل تام لملفات "حارقة" مثل العنف الطائفي، وقمع الأقليات الدينية غير المعترف بها، وتصاعد قضايا "ازدراء الأديان" التي تحبس العشرات بسبب آرائهم.

 

ميزانية مليونية وتصنيف دولي "للزينة"

 

لأول مرة، يكشف المجلس عن قوائمه المالية التي أظهرت ارتفاع موارده إلى 75 مليون جنيه. هذا الرقم يطرح سؤالاً جوهرياً: أين تذهب هذه الأموال إذا كان دور المجلس قد تقلص إلى إصدار تقارير دعائية وتجاهل الانتهاكات الجسيمة؟ الإجابة تكمن في أن هذه الميزانية لا تُنفق على الدفاع عن الضحايا، بل على رواتب الموظفين وتنظيم فعاليات العلاقات العامة التي تهدف لتحسين صورة النظام في الخارج.

 

وحتى التصنيف الدولي "A" الذي يتباهى به المجلس، يبدو أنه مجرد "شهادة شكلية". فلجنة الاعتماد الدولية نفسها التي منحته التصنيف، أوصت بضرورة توسيع صلاحياته ومنحه سلطة التحقيق في الشكاوى، وهي التوصية التي ضربت بها السلطات المصرية عرض الحائط. وهذا يؤكد أن النظام لا يريد مجلساً قوياً وفعالاً، بل يريد "ديكوراً" حقوقياً يستخدمه كورقة توت لتغطية عوراته أمام المجتمع الدولي، بينما يواصل سحق مواطنيه في الداخل بلا رحمة أو مساءلة.