في مشهد يتكرر بوتيرة مرعبة، تتحول السجون وأقسام الشرطة المصرية إلى مقابر جماعية تبتلع أرواح المواطنين بين جدرانها، بينما تصم السلطات آذانها عن صرخات المنظمات الحقوقية التي تحذر من كارثة إنسانية متفاقمة. فمنذ مطلع عام 2025، وثقت منظمات حقوقية مستقلة وفاة 24 شخصاً على الأقل داخل مراكز الاحتجاز، في ظل غياب تام للمحاسبة وتواطؤ مؤسسي يحمي مرتكبي الجرائم.

 

الوفيات الأخيرة لا تمثل حوادث معزولة، بل تكشف عن نمط ممنهج من الإهمال الطبي المتعمد والتعذيب وسوء المعاملة، يستهدف كل من تطاله يد القمع، سواء كان معتقلاً سياسياً أو محتجزاً على خلفيات جنائية. هذا الواقع المرير يؤكد أن النظام الحاكم حوّل مؤسساته الأمنية إلى أدوات بطش تمارس القتل البطيء بعيداً عن أعين الرقابة والقانون.

 

أكاديمي في السبعين يلفظ أنفاسه الأخيرة خلف القضبان

 

الدكتور عطا يوسف عبد اللطيف، أستاذ فيزياء الجوامد التجريبية بجامعة أسيوط، فارق الحياة يوم 26 ديسمبر 2025 داخل زنزانته في سجن بدر 3، بعد سنوات من الاحتجاز التعسفي ومعاناة قاسية مع أمراض القلب المزمنة. رجل يناهز السبعين من عمره، كرّس حياته للعلم والبحث الأكاديمي، لكن النظام قرر أن يكون مصيره الموت البطيء في زنزانة مظلمة، محروماً من العلاج والرعاية الصحية اللائقة.

 

وفاة يوسف ليست استثناءً، بل قاعدة في منظومة سجون تفتقر لأدنى معايير الإنسانية. المعتقلون السياسيون، وخاصة كبار السن منهم، يتركون ليواجهوا أمراضهم وحدهم، في ظل سياسة متعمدة من الإهمال الطبي الذي يرقى إلى مستوى القتل العمد. السلطات تعلم تماماً أن حرمان مريض قلب من الرعاية الطبية يعني حكم إعدام بطيء، لكنها تواصل هذه الممارسة بوحشية مطلقة.

 

التعذيب حتى الموت: قسم الهرم نموذجاً للانتهاكات الممنهجة

 

طارق أشرف محفوظ دخل قسم شرطة الهرم في الثالث من ديسمبر على خلفية مشاجرة زوجية، وخرج منه جثة هامدة في 24 من الشهر ذاته. جسده كان يحمل آثار التعذيب الوحشي: إصابات في الظهر والرقبة والساقين تشهد على العنف البدني الشديد الذي تعرض له.

 

قسم الهرم، الذي تصفه المبادرة المصرية للحقوق الشخصية بأنه أحد "أسوأ أماكن الاحتجاز"، يعاني من اكتظاظ يتجاوز 300% من طاقته الاستيعابية، ما يحوله إلى بيئة لا إنسانية تنعدم فيها أبسط مقومات الحياة الآدمية. الاكتظاظ الرهيب، غياب التهوية، انعدام الرعاية الطبية، وثقافة الإفلات من العقاب التي تحمي الضباط المتورطين في التعذيب، كلها عوامل تتضافر لتحويل أقسام الشرطة إلى مسالخ بشرية.

 

حادثة محفوظ تكشف زيف الادعاءات الحكومية حول "تحسين أوضاع السجون" و"احترام حقوق الإنسان". الواقع على الأرض يقول إن التعذيب لا يزال سياسة ممنهجة، وأن المواطن البسيط يمكن أن يدخل قسم شرطة لأتفه الأسباب ويخرج جثة، دون أن يحاسب أحد.

 

الإخفاء القسري والموت في الظلام: جريمة أحمد سليمان

 

الأكثر فظاعة هو مصير أحمد سليمان المسعودي، الذي أصدرت محكمة جنايات الزقازيق قراراً بإخلاء سبيله في 11 نوفمبر 2024، لكن بدلاً من إطلاق سراحه، أخفته أجهزة الأمن قسرياً داخل مقر تابع للأمن الوطني بالشرقية. هناك، حُرم من العلاج رغم معاناته من التهاب رئوي حاد، نتيجة سنوات من "التدوير" في قضايا ملفقة منذ عام 2015، حتى فارق الحياة في ظروف غامضة.

 

هذه الحالة تكشف الوجه الحقيقي للنظام: احتقار سيادة القانون وأحكام القضاء، والإمعان في انتهاك أبسط الحقوق الإنسانية. القرارات القضائية تصبح حبراً على ورق عندما تتعارض مع رغبة الأجهزة الأمنية التي باتت تتصرف كدولة داخل الدولة، فوق القانون والدستور.

 

الإخفاء القسري، التعذيب، الإهمال الطبي المتعمد، كلها أدوات في ترسانة القمع التي يستخدمها النظام لإخضاع المواطنين وبث الرعب في نفوسهم. الرسالة واضحة: من يجرؤ على المعارضة، أو حتى من يقع في شباك الأجهزة الأمنية لأي سبب، يمكن أن يختفي ويموت دون أن يعلم أحد.

 

منظمات حقوقية تحذر من أن استمرار هذا النمط من الانتهاكات، في غياب محاسبة حقيقية للمسؤولين، يعني أن المزيد من الأرواح ستُزهق داخل السجون وأقسام الشرطة. النظام يواصل سياساته القمعية متكلاً على صمت المجتمع الدولي وتواطؤ المؤسسات المحلية، لكن التاريخ لن يرحم من حوّل مصر إلى سجن كبير يموت فيه المواطنون ببطء تحت وطأة الظلم والقهر.