أن تكون بائع خضروات أو فاكهة في مصر، يعني أن ما تكسبه من قُوت مرهون بقدرتك على بيع بضاعتك في نفس اليوم. فكل ما يبقى لليوم التالي، إما يفسد أو يُباع بخسارة، في أفضل الأحوال.

هذا التحدي يتضاعف في ظل موجة حر شديدة، مع تراجع استهلاك المواطنين للخضروات بفعل ارتفاع الأسعار، بينما أصبحت الفاكهة تُصنف كرفاهية للكثيرين. (اجتاحت مصر في الآونة الأخيرة موجات حر قياسية، حيث تجاوزت درجات الحرارة في بعض المحافظات مثل أسوان حاجز الـ 49.5 درجة مئوية في الظل).

سعيد (اسم مستعار)، بائع خضروات وفاكهة يبلغ من العمر 40 عامًا، لم يستمر في عمله سوى شهرين قبل أن يقرر التحول إلى تاجر جملة للطماطم يبيع لصغار البائعين. في حديثه إلى “زاوية ثالثة”، يفسر سعيد قراره بخسارته 35 ألف جنيه خلال تلك الفترة. يروي: “اخترت موقعًا حيويًا في حي شعبي مكتظ بالأبراج السكنية والسيارات الفاخرة. استأجرت محلًا بـ7 آلاف جنيه شهريًا، وعرضت بضاعة عالية الجودة تتناسب مع طبيعة المكان”.

لكن سعيد سرعان ما اكتشف أن الموقع لم يكن كما توقع. يقول: “رغم السيارات الفاخرة والشقق التي تتجاوز قيمتها المليون جنيه، كان السكان يسألون عن الأسعار ثم يغادرون أو يشترون بعد الكثير من المساومة”. يضيف: “مع ارتفاع أسعار الخضروات والفواكه، قلل الناس استهلاكهم بشكل كبير. من كانت تشتري ثلاثة كيلوغرامات من الطماطم، أصبحت تكتفي بكيلو أو نصف كيلو، أما الفاكهة فقد تخلت عنها الغالبية تمامًا”.

خلال الأسابيع الأخيرة، شهدت أسعار الخضروات ارتفاعات كبيرة. بلغ سعر كيلو الطماطم 40 جنيهًا، والكوسة 35 جنيهًا، بينما تراوح سعر البطاطس والخيار بين 25 و30 جنيهًا.

في هذا السياق، فسر حاتم النجيب، نائب رئيس شعبة الخضار والفاكهة، في تصريح لقناة “الحياة” قبل أسبوع، أن السبب يعود إلى موجات الحرارة الشديدة.

أوضح النجيب أن نصف المحصول قد تضرر بفعل ارتفاع درجات الحرارة، مشيرًا إلى أن الطماطم، الكوسة، الخيار، والبامية كانت من أكثر المنتجات تضررًا. ووفقًا لتقديراته، تراجعت إنتاجية الطماطم بنسبة 50%، والخيار بنسبة 40%، والكوسة بنسبة 30%.

إلى جانب موجات الحرارة، تتأثّر أسعار الخضروات أيضًا بموجات التضخّم. وفقًا لنشرات الجهاز المركزيّ للتعبئة العامّة والإحصاء، بلغ سعر كيلو الطماطم في أغسطس 2023 نحو 12 جنيهًا، مقارنة بـ6 جنيهات في الشهر نفسه من عام 2022.

الوضع نفسه ينطبق على الخيار، حيث ارتفع سعره في أغسطس 2023 إلى 14 جنيهًا، بينما كان في أغسطس 2022 حوالي 8 جنيهات. أمّا الكوسة فقد شهدت ارتفاعًا كبيرًا، إذ بلغ سعرها في أغسطس 2023 نحو 35 جنيهًا، مقارنة بـ10.31 جنيهًا في أغسطس 2022، لتسجّل ارتفاعًا بأكثر من ثلاثة أضعاف.

سعيد ليس وحده في مواجهة هذه التحديات، حيث يتشارك مع غالبية تجار الخضروات والفاكهة الذين يفترشون الأسواق، أو ينتشرون في الطرقات.

بينما قرر سعيد التحول إلى تاجر جملة يكتفي بكسب 400 جنيه يوميًا بهدف “كسب ثقة زبائنه الجدد”، كما يقول، لجأ آخرون إلى سبل مختلفة للتأقلم مع هذه التحولات التي تشهدها “السبوبة”، وهو المصطلح الذي يستخدمه بائعو الخضار والفاكهة للإشارة إلى عمليات البيع والشراء اليومية.

أسواق خالية وزراعة أقل
فاطمة (اسم مستعار)، بائعة فاكهة، دخلت عالم البيع قبل أربعة أعوام، بعد تعرض زوجها لحادث ألزمها بالعمل لمساعدته على إعالة أسرتها المكونة من أربع فتيات، أكبرهن تبلغ 15 عامًا.

طوال تلك الفترة، لم تلحظ فاطمة اختفاء الباعة كما يحدث في هذه الأيام. تقول: “الكثير من الباعة لم يعودوا يشغلون أماكنهم في السوق. في السابق، كنت أكتفي بإجازة يوم الجمعة، أما الآن فقد أمكث في المنزل ثلاثة أو أربعة أيام”.

تُرجع فاطمة ذلك إلى “ارتفاع أسعار المحصول وقلة البيع”، وتُقدّر مكسبها اليومي في أفضل الأحوال بنحو 120 إلى 150 جنيهًا، وهو مبلغ تتقاسمه مع شقيقة زوجها التي ترافقها في رحلة البيع. وتضيف: “في السابق كنا نكسب نحو 200 أو 300 جنيه في اليوم، أما الآن فقد انخفض المكسب إلى النصف”.

محمد عطية (26 عامًا)، بائع خضروات في منطقة شبرا الخيمة بمحافظة القليوبية، يوافقها الرأي. يقول إنه ذهب الأسبوع الماضي لشراء محصوله، ووجد قفص الطماطم بسعر 600 جنيه، وكيلو الفلفل بـ18 جنيهًا جملة، فقرر إغلاق المحل والبقاء في المنزل ذلك اليوم.

يؤكد عطية أن الأوضاع تبدلت، وأن حوالي ثلث الباعة في محيطه أغلقوا محالهم، أو توقفوا عن العمل، بينما يفكر الآخرون في اتخاذ القرار ذاته.

لكن البقاء في المنزل لفترات أطول لم يكن كافيًا لكل من فاطمة وعطية. في ظل بطء حركة البيع، قررا تقليص كميات البضائع المعروضة لتتناسب مع الطلب الضعيف.

تقول فاطمة: “كنت أشتري بضاعة تملأ سيارة نصف نقل بحمولة تصل إلى 30 أو 40 برنيكة، أما الآن فأكتفي بتروسيكل يحمل من 16 إلى 20 برنيكة”. ورغم هذا التقليص، تجد فاطمة نفسها مضطرة في كثير من الأحيان لبيع ما تبقى من البضاعة في اليوم التالي بخسارة.
الأمر لا يختلف كثيرًا بالنسبة لعطية، الذي قلل من كمية الخضروات المعروضة إلى أقل من النصف. يوضح: “كنت أعرض 30 قفص طماطم في اليوم، الآن أعرض 10 فقط”.

ويضيف أن هذه الكمية عادة ما تنفد، وإن تبقى منها شيء، فإنه يشتري كمية أقل لليوم التالي.

هذه الاستراتيجيات ساعدت فاطمة وعطية حتى الآن على تفادي الوقوع في فخ الديون لتجار الجملة. يوضح عطية: “الكثير من الباعة تراكمت عليهم الديون بسبب ارتفاع أسعار الخضروات وضعف الطلب، بالإضافة إلى ارتفاع تكاليف النقل وإيجار المحال”.

ويشير إلى أن بعض الباعة لم يواكبوا التغيرات في السوق ولم يقللوا من كميات البضاعة المعروضة، مما أدى إلى تلفها وتكبدهم الخسائر.

ويرى عطية أن وراثته المهنة عن والده وجده ساعدته على فهم طبيعة السوق. يقول: “المكسب انخفض بلا شك، لكنني لم أضطر للاستدانة، وما زلت قادرًا على إعالة أسرتي”.
أما فاطمة فتقول: “أفضل أن أدفع للتاجر كل ما جمعت في نهاية اليوم، دون أن يتبقى لي مكسب، على أن أستدين وأدخل في دوامة الديون”.