بقلم/ معين الطاهر

 

أعترف أن ثمّة صخرة كبيرة جثمت على صدري، وازداد ثقلها مع حرب الإبادة الجماعية التي شنّها الاحتلال على قطاع غزّة، ثمّ خف الثقل مع الصمود الأسطوري للمقاومة الذي حافظ على شرف الأمّة، وعاد ليزداد مع تجويع أهل غزّة المترافق مع الموقف العربي الرسمي المتردّي والصامت عن سياسات القتل والتدمير الممنهج في فلسطين ولبنان. وبعد مسلسل التفجيرات والاغتيالات التي امتدّت من طهران إلى بيروت، وانتهت، بعد قتال ضارٍ، بفكّ ارتباط الجبهة اللبنانية بجبهة فلسطين. وعلى الرغم من صعوبة الموقف في المدى القصير، لم ينقطع الأمل يومًا، إذ إنّ الإيمان بحتمية النصر وتوفّر أسبابه الذاتية والموضوعية لم يتزعزع. في ظلّ هذا الواقع الصعب والمرير، أطلّت علينا الأخبار المفرحة عن شمس قد أشرقت في سماء دمشق، بعد أن اندحرت تلك الغيوم السوداء المتراكمة، وأن الياسمين الدمشقي قد فاحت رائحته من جديد، وانتشرت مع نسيم الحرّية الذي ملأ أجواءها.

أحسنت المعارضة السورية، بعد تحرير دمشق وسط ترحيب شعبي لافت، في حرصها على الانتقال السلمي للسلطة، وعدم لجوئها إلى الثأر والانتقام، على الرغم من الألم والمعاناة التي عاناها الشعب السوري في أعوام الاستبداد الطويلة، وإعلانها عفوًا عامًّا عن المجنّدين في الجيش السوري. لكن ثمّة سؤال مركزي يتردّد صداه عما إذا كان ياسمين دمشق سينعش الحرّية والديمقراطية، ويوفّر الأمان والمساواة للشعب السوري كلّه في مختلف مناطقه، وينجح في إنجاز مصالحة وطنية، ويحافظ على وحدة التراب السوري، أم سيُنتج نموذجًا مغايرًا للاستبداد والتفرّد، وقمع الحرّيات، والتمييز بين المواطنين، وهل ستسود الرغبة في الثأر والانتقام، أم روح التراحم والمحبّة والتسامح؟ وهل ستُبنى سورية حديثة حرّة وديمقراطية لتكون نموذجًا للتغيير أمام العالم العربي كلّه، أم ستشكّل نموذجًا للانطواء والتخلّف والعزلة؟... ثمّة قرارات حاسمة ينبغي اتخاذها بسرعة، وهي تتعلّق بقدرة المعارضة على فرض الأمن، وتوفير لقمة العيش، وإجراء مصالحات وطنية، وإشراك قطاعات واسعة من الشعب السوري في إدارة الدولة، وتشكيل حكومة ائتلافية، والمحافظة على الجيش السوري، وعدم تكرار النموذجين العراقي والليبي، والنأي بنفسها عن المحاور الإقليمية.

ثمّة تحدٍّ رئيس وجوهري أطلّ برأسه بعد تحرير دمشق، تمثّل في مئات الغارات الصهيونية التي استهدفت مواقع الجيش السوري ومخازن أسلحته وصواريخه وطائراته وقطعه البحرية كافّة، بهدف إنهاء القدرة القتالية للجيش السوري وتدميرها، ومنع انتقالها إلى المعارضة. كما تمكّن الاحتلال من السيطرة على ما تبقّى من الجولان وجبل الشيخ، والتقدّم باتجاه ريف دمشق، وأصبح على مسافة 25 كيلومترًا منها، وترافق ذلك مع إعلان وزير الأمن الإسرائيلي أن جبهة رابعة قد فُتِحت في الأراضي السورية، وأن هذه العمليات ستستمرّ، ووفق تصريحات متلاحقة لمسئولين صهاينة، أن سورية لن تكون موحّدةً، مذكّرين بالمخطّط الصهيوني السابق عن حلف الأقلّيات في المنطقة.

تحتاج مواجهة هذا العدوان الصهيوني الجديد أولاً تعزيز الوحدة الوطنية في سورية، والوقوف صفًّا واحدًا في مواجهة هذا العدوان، وترتيب الوضع الداخلي، ونبذ دُعاة التطبيع والاستسلام من بين الصفوف. يستغلّ العدو الظرف الذي تمرّ فيه سورية هذه الأيام، لكن استمرار العدوان سيقيم الظروف المناسبة لمواجهته، ويثبت من جديد أن العدو الرئيس لسورية وشعبها، كما هو حال الأمة العربية كلّها، هو العدو الصهيوني الذي ينبغي حشد جميع القوى ورصّ الصفوف لمواجهته.

"طوفان الأقصى" وسقوط نظام بشّار الأسد قلبا وجه المنطقة، وأوجبا (وسيوجبان) على دولها وقواها تغيير مقارباتها السابقة، وصوغ رؤى جديدة تتلاءم مع الوقائع المستجدّة، وتعيد النظر في سياساتها السابقة، أفلا يوجب ذلك على حزب الله، مع التقدير الكامل لمقاومته ضدّ العدوان الصهيوني على لبنان، أن يعيد تقييم مشاركته مع النظام في سورية، وأن يستخلص أن المقاومة لا تستقيم مع الاستبداد والظلم والوقوف في مواجهة الشعوب؟ ألا يتوجب على ما عُرف بمحور المقاومة أن يخلص إلى أن هذا المحور لا يمكن أن يتشكّل إلّا على قاعدة أن فلسطين قضيته المركزية، وليس على قاعدة الحروب والصراعات الداخلية في الدول العربية؟ وهل التغيير الكبير في الخطاب الإيراني، بعد انهيار النظام السوري، وحديث المسئولين في إيران عن ابتعاد الرئيس السوري عن شعبه، والنصائح التي وُجهت إليه على لسان قاسم سليماني بضرورة الالتفات إلى الشعب السوري، كافية، أم ثمّة حاجة ملحّة لتقييم السياسة الإيرانية في المنطقة، التي أدّت عمليًا إلى عزلها عن الجزء الوازن من الجمهور العربي، والتورّط في صراعات جانبية لم يكن بالإمكان تفسيرها بعيدًا عن أيديولوجيات ذات بُعد مذهبي يضرّ بوحدة الأمة في مواجهة عدوها؟ بل قد نكون عمليًا قد تجاوزنا مرحلة تقييم هذه السياسات إلى رؤية الوقائع الجديدة في الأرض في سورية ولبنان والعراق، وهذا يوجب سياسات تصالحية أكثر اتحادًا والتصاقًا مع الإقليم وشعوبه ودوله.

نحن الآن على مفترق طريق ستتحدّد ملامحه عبر مسألتَين؛ الأولى كيف سنواجه اليوم التالي لما بعد حرب الإبادة الجماعية في غزّة، وندعم الشعب الفلسطيني في صموده في أرضه؟ والثاني يتعلّق بمسار الثورة السورية، فهي إمّا أن تكون فاتحة "ربيع عربي" جديد مشرق ومزدهر، يستفيد من التجارب السلبية السابقة ودروس الثورات المضادّة ليتجنّبها، ويفتح باب الأمل أمام الشعوب العربية، ويعيد إليها ثقتها بقدرتها على التغيير، أو أن تفشل هذه التجربة المضيئة، فتتكرّس أنظمة الاستبداد وسيلةً وحيدةً للمحافظة على شكل الأوطان، بعيدًا من حرّيتها وحرّية شعوبها.