د. سعيد الحاج

كاتب وباحث في الشأن التركي

 

يوم السبت الماضي، وفي مهرجان جماهيري لحزب العدالة والتنمية في مدينة أورفا، وجّه المطرب المعروف إبراهيم طاطليسس سؤالا للرئيس أردوغان عن مدى استعداده لفترة رئاسية جديدة، فكان جواب الأخير: "إذا كنتَ أنت مستعدًا، فأنا كذلك". وهو ما فهم منه أنه ترك الباب مفتوحًا على تداول الفكرة.

يتناقض هذا الموقف مع تصريح شهير لأردوغان نفسه خلال الحملة الانتخابية للانتخابات المحلية الأخيرة قبل شهور، حين دعا أنصاره "للتصويت له للمرة الأخيرة"، وهو ما كان فُهم منه أنه لن يسعى للترشح مرة أخرى. فهل سيترشح أردوغان مجددًا؟ وهل يحق له؟ وكيف؟

دستوريًا وعمليًا، هذه هي العهدة الرئاسية الأخيرة لأردوغان، باستثناء وحيد. فقد كان انتخب رئيسًا لأول مرة في 2014، لكن التعديل الدستوري الخاص بالتحول نحو النظام الرئاسي في 2017 نص على الحق في مدتين رئاسيتين ابتداء من الانتخابات التالية والتي جرت في2018، وفاز فيها أردوغان، ثم كذلك في انتخابات العام 2023.

ولذلك، دستوريًا، لا يحق للرجل الترشح مرة أخرى عام 2028، إلا في حالة واحدة، وهي دعوة البرلمان لانتخابات مبكرة، وتجرى في هذه الحالة انتخابات رئاسية وبرلمانية متزامنة، إذ يعدُّ ذلك انتقاصًا من حق الرئيس في إكمال فترته، فيُمنح فرصة للترشح مرة إضافية. ولذلك، حين صرح أردوغان بأن الانتخابات البلدية الأخيرة هي "آخر انتخابات يخوضها"، جاء التعليق من نائب رئيس الكتلة البرلمانية لحزب العدالة والتنمية بكير بوزداغ بأنه "يحق له دستوريًا الترشح مرة أخرى"، محيلاً على فكرة الانتخابات المبكرة في حال قرر البرلمان ذلك.

بهذا المعنى، ثمة حالتان دستوريتان تتيحان للرئيس أردوغان الترشح مرة أخرى للرئاسة، الأولى هي دعوة البرلمان لانتخابات مبكرة كما سبق، والثانية هي صياغة دستور جديد أو إجراء تعديل دستوري "يصفّر" ما سبق ويتيح لأردوغان الترشح مرة أخرى في صياغته، كما حصل في تعديل عام 2017 المشار له أعلاه.

وفي الحالتين، لا يملك حزب العدالة والتنمية مع شركائه في تحالف الجمهور الأغلبية التي تتيح له ذلك، ولا يبدو حتى اللحظة ووفق المعطيات الراهنة إمكانية كبيرة لتغيير موقف أحد الأحزاب، باستثناء دعوة كان وجهها زعيم المعارضة ورئيس حزب الشعب الجمهوري أوزغور أوزال باستعداد حزبه لدعم فكرة الانتخابات المبكرة، وبالتالي فتح الباب على ترشح جديد لأردوغان في حال كان الموعد المقترح قبل انتصاف فترته الرئاسية الحالية، وهو ما فُهم كمحاولة لاستغلال الأوضاع الاقتصادية والرغبة في عدم انتظار نتائج خطة الإصلاح الاقتصادي الحكومية على المدى البعيد، وبالتالي لم يحصل تجاوب مع الفكرة من الحزب الحاكم في حينه.

بيد أن هناك تطورين مهمَّيْن في السياسة التركية داخليًا وخارجيًا حصلا مؤخرًا، وقد يكون من تبعاتهما تغيير جذري في هذا الموضوع:

التطور الأول هو سقوط نظام الأسد في سوريا ووصول المعارضة، ممثلة بإدارة العمليات العسكرية، للحكم في دمشق، لا سيما في ظل رسائلها الإيجابية جدا تجاه أنقرة. إذ ثمة اتفاق، بل شبه إجماع، بأن تركيا أحد أكبر الكاسبين مما حصل في سوريا، وأن مكاسبها تمتد من السياسي للعسكري ومن الاقتصادي للاستراتيجي. داخليًا كذلك، نُظر للأمر على أنه إنجاز أو انتصار لأردوغان وسياسته السورية، رغم أنه كان يدعو الأسد لتطبيع العلاقات بين البلدين قبيل عملية "ردع العدوان".

الأهم في مكاسب أردوغان وتركيا سياقان، الأول متعلق بالاقتصاد حيث تشير توقعات العديد من الاقتصاديين إلى استفادة الاقتصاد التركي من استئناف التجارة مع سوريا بشكل كامل، وعودة الأخيرة لتكون بوابة للتجارة البرية بين تركيا والعالم العربي، فضلاً عن عملية إعادة الإعمار التي يمكن للشركات التركية أن تلعب دورًا محوريًا فيها. والثاني يرتبط بالأمن القومي، إذ قدمت التغيرات في سوريا فرصة غير مسبوقة لتركيا لإنهاء المشروع الانفصالي المرتبط بمنظمة حزب العمال الكردستاني في الشمال السوري، من حيث قوة موقف تركيا ونفوذها في سوريا الجديدة وفقدان قوات سوريا الديمقراطية العديد من أوراق القوة والدعم.

يتناغم كل ذلك مع المبادرة التي أطلقها قبل شهرين داخليًا حليف أردوغان، الزعيم القومي دولت بهتشلي، بخصوص المسألة الكردية، إذ دعا ضمنًا لإطلاق سراح الزعيم التاريخي لحزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان ليلقي خطابًا يعلن فيه إنهاء العمليات ضد تركيا وحل التنظيم، وهو ما عُدَّ إشارة على مسار سياسي قريب، تلته خطوات من بينها زيارة أوجلان في سجنه من قبل حزب مساواة وديمقراطية الشعوب "الكردي".

بالربط بين الملفين، فإن قدرة تركيا على تجاوز مخاوفها الأمنية في سوريا، وتحديدًا من خلال حل سوري- سوري أو فك قوات سوريا الديمقراطية ارتباطها بالعمال الكردستاني واختيارها الانخراط في المؤسسات السورية الجديدة، ستعزز فرص نجاح المسار الداخلي للمسألة الكردية.

وعليه، فإن التطورات في سوريا قد فتحت الباب على إمكانية حل المعضلة الأكبر المتعلقة بالأمن القومي التركي، ورفد الاقتصاد بإمكانات ومجالات نشاط جديدة، كل ذلك في ظل رئاسة أردوغان، فضلاً عن أمر مهم، وهو أن المسار السياسي الداخلي على الأغلب سيتضمن كتابة دستور جديدة للبلاد أو القيام بتعديل دستوري كبير، يمكن أن يكون من بين مواده إتاحة المجال لأردوغان للترشح مجددًا، وبدعم من حزب مساواة وديمقراطية الشعوب. والاحتمال الآخر، أن يدعم الأخير قرارًا من البرلمان بتبكير الانتخابات كجزء من تفاهمات يشملها المسار السياسي المشار له. وفي كلتا الحالتين سيفتح الباب أمام ترشح أردوغان مجددًا وبشكل دستوري، وعبر البرلمان.

وهنا تحديدًا، يأتي سياق التذكير بتصريح لافت للغاية لبهتشلي نفسه، بعد مبادرته سالفة الذكر، حين قال إن البلاد لن تجد مجددًا مرشحًا رئاسيًا أفضل من الرئيس أردوغان "في حال نجح في إصلاح الاقتصاد والقضاء على الإرهاب".

وعليه، ختامًا، فإن استمرار الاستقرار في سوريا لن يقف عند حدود إفادة تركيا في المجالات الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية والأمنية العامة، ولكنه قد يفيد أردوغان وحزبه بشكل مباشر فيما يتعلق بفكرة الترشح مجددا للرئاسة وبشكل دستوري وقانوني، لا سيما وأن ما سبق سيكون قد رفع من شعبيته ورصيده في الداخل كما فصّلنا وبالتالي من فرص فوزه بالانتخابات الرئاسية في حال ترشح. وبالتأكيد، فإن أردوغان حينها لن يمانع أو يفكر طويلاً في استثمار هذه الفرصة، بل ربما صناعتها.