من المفهوم على نطاق واسع، وبشكل صحيح، أن اليمين الشعبوي لا يمثل الفاشية التقليدية. فشخصيات مثل الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، وزعيم حزب الإصلاح البريطاني نايجل فاراج، رغم قربهم الأيديولوجي من الفكر الفاشي وتشجيعهم الضمني للتيارات الفاشية الصريحة، يختلفون في بعض النقاط الجوهرية عن الحركات الفاشية الكلاسيكية، مثل تلك التي ظهرت في ثلاثينيات القرن الماضي أو الحزب الوطني البريطاني لاحقًا.
بنت الحركات الفاشية التقليدية قوتها على تشكيل مليشيات شبه عسكرية للسيطرة على الشوارع وقمع الخصوم من اليساريين والنقابيين والأقليات. أما اليمين الشعبوي المعاصر، فيعتمد على الأحزاب الانتخابية الرسمية، دون أجنحة عسكرية منظمة، رغم وجود تداخل مع جماعات تحاول لعب هذا الدور مثل "Proud Boys" في أمريكا ومؤيدي تومي روبنسون في بريطانيا. غير أن هذه العلاقة ليست مستقرة أو منظمة، ولا تنسجم مع استراتيجية فاشية للسيطرة على الشوارع.
فاراج مثلًا اضطر للتبرؤ من روبنسون صيف العام الماضي، عقب موجة من المظاهرات المناهضة للعنصرية التي أعقبت اضطرابات عنصرية.
لذلك، من المهم فهم أن الطرق التقليدية في مواجهة الفاشية قد لا تُجدي نفعًا مع الشعبوية اليمينية. فاراج لا يقود مسيرات، ولا يحشد مجموعات لقمع الاجتماعات اليسارية أو إضرابات العمال. الصراع مع اليمين الشعبوي يدور في ميادين أخرى، أبرزها المجال الثقافي، حيث يشن حربًا على ما يسميه "اليقظة" أو "الوعي المفرط".
هذا الصراع الأيديولوجي يتطلب من اليسار المواجهة، لكن دون التورط في الدفاع غير المشروط عن كل مواقف اليسار الهوياتي، الذي يعزز الانقسام الطبقي بدلًا من الوحدة. المثال الأبرز هنا يتجلى في تعيين كريسيدا ديك كأول امرأة تقود شرطة العاصمة، رغم مقتل سارة إيفرارد على يد أحد ضباطها، وقمع الاحتجاجات على هذه الجريمة، والتقارير الرسمية التي وصفت الشرطة بالعنصرية والتمييز الجنسي المؤسسي.
معالجة هذا الوضع تتطلب خطابًا موحدًا يُجمع العمال والطبقات المهمشة، بدلًا من تعزيز سياسات الهوية التي تفتت الوعي الطبقي والتنظيم السياسي.
لكن الهجوم الشعبوي لا يقتصر على المجال الثقافي، بل يتعداه إلى استغلال أجهزة الدولة القمعية بشكل غير مسبوق. تقاليد الديمقراطية البرلمانية الغربية تُفضل الإقناع والدعاية بدلًا من القمع المباشر، وتحافظ على وهم "حياد الدولة" عبر فصل السلطات. الدولة تُستخدم لحماية مصالح الطبقة الحاكمة ككل، وليس لمصلحة حزب بعينه. لكن الشعبويين يعمدون إلى تسييس مؤسسات الدولة وتوظيفها لصالح فصيلهم السياسي.
هذا السلوك يعرض الدولة لأزمات داخلية، ويكشف زيف حيادها أمام الجماهير، ما يدفع إلى مزيد من القمع. تجربة ترامب توضح هذا المسار: من اقتحام الكونجرس، إلى رفض الاعتراف بنتائج الانتخابات، إلى تعيين شخصيات مثل إيلون ماسك، وتفكيك البيروقراطية، والتشريع بالأوامر التنفيذية، وتقويض النظام الدولي القائم على القواعد.
في بريطانيا، أسهم اليمين الشعبوي في دفع المشهد السياسي يمينًا، ما مهّد الطريق أمام بوريس جونسون للهيمنة على حزب المحافظين، وتهميش الأصوات المعتدلة. حاول جونسون تسييس مؤسسات الدولة من خلال مستشاره دومينيك كامينجز. لاحقًا، سعت سويلا برافرمان إلى استخدام الشرطة في خدمة اليمين المتطرف عبر حديثها عن "نظام مزدوج لتطبيق القانون".
هذا النهج استمر مع كير ستارمر، الذي يظهر تقبلًا ملحوظًا للأجندة اليمينية. المشهد ذاته يتكرر في ألمانيا مع صعود "البديل من أجل ألمانيا"، وفي فرنسا مع تنامي نفوذ مارين لوبان.
يثبت الواقع أن الحريات الديمقراطية تتعرض لهجوم مباشر: سجناء سياسيون يساريون يُزج بهم في السجون البريطانية، قادة الحركات المؤيدة لفلسطين يُلاحقون قضائيًا، ويُستجوب حتى كبار السن ونجوم الفن، وتُقتحم أماكن اجتماعات سلمية، في حين تسعى الحكومة لفرض قوانين أشد صرامة ضد التظاهر. الوضع في أمريكا وأوروبا، خصوصًا ألمانيا، لا يقل حدة.
إعادة تسليح أوروبا ستُسرّع هذا الهجوم على الحقوق الديمقراطية. وهنا، تكمن ساحة المعركة الحقيقية مع اليمين الشعبوي ومع من يقلدونه من تيارات اليسار التقليدي.
https://www.middleeasteye.net/opinion/populists-are-not-fighting-streets-battle-line-democratic-rights