في دراسة نشرها مركز كارنيجي للشرق الأوسط في مايو 2025 بعنوان "الجمهورية الثانية: إعادة تشكيل مصر في عهد عبد الفتاح السيسي"، حلّل الباحث يزيد صايغ ملامح المشروع السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي يقوده السيسي منذ توليه الحكم، واصفًا إياه بجمهورية جديدة تنفصل عن الإرث الجمهوري الذي بدأ بعد 1952. رأى صايغ أن هذا التحول يتمحور حول تقييد السياسة، تقليص القطاع العام، إعادة تعريف العقد الاجتماعي، وصياغة رأسمالية دولة هجينة تُخضع القطاع الخاص لإرادة السلطة، إلى جانب ترسيخ ما سمّاه "الوصاية العسكرية".
استبدل النظام الجديد سياسات العدالة الاجتماعية التي سادت بعد 1952 بعقيدة "لا شيء مجانًا"، وأقصى القطاع العام الذي شكّل سابقًا قاعدة اجتماعية للسلطة. عزّز السيسي سلطاته إلى درجة تفوق أسلافه، وجعل من الجيش عمودًا سياسيًا لا يمكن تجاوزه. تبنّى نسخة حديثة من رأسمالية الدولة، تعتمد على مؤسسات موازية تحت سيطرته، ما خلق اقتصادًا يخضع لهيمنة الدولة ولو عبر أدوات شكلها خاص.
سعى النظام إلى القضاء على السياسة المستقلة، عبر تفكيك الأحزاب الحقيقية، وإحلال كيانات موالية تشرف عليها أجهزة الأمن. أُضعفت مؤسسات الرقابة وأُخضعت للسلطة التنفيذية، وجرى استهداف منظمات المجتمع المدني وتقييد دورها في إطار تنموي رسمي يتوافق مع أولويات الدولة. أما البرلمان، فتحول إلى أداة تمرير للقرارات، بلا قدرة فعلية على الرقابة أو التشريع المستقل.
أعاد السيسي صياغة العقد الاجتماعي عبر تقليص الدعم وفرض سياسات تقشف، ما أدى إلى تفاقم الفقر وتراجع الطبقة الوسطى. رغم إطلاق برامج دعم نقدي، بقيت محدودة التأثير. وبالمقابل، حصلت النخب العسكرية على زيادات ضخمة في الرواتب والمعاشات، مما عزز تمايزها الاقتصادي. شهدت مصر توسعًا غير مسبوق في المشاريع العقارية الكبرى، التي خُصصت للنخب، بينما جرى نقل سكان الأحياء الشعبية إلى أطراف المدن، بعيدًا عن مراكز العمل والخدمات.
اعتمدت "الجمهورية الثانية" على أربع ركائز: القمع، والسيطرة الإعلامية، وقومية مفرطة مبنية على نظرية المؤامرة، وتدريب نخب بيروقراطية موالية. استخدم النظام العنف الممنهج والاعتقال والتجسس لقمع أي معارضة، واحتكر الفضاء الإعلامي، وفرض سردية أحادية تمجّد الرئيس والجيش وتبرر السياسات الاقتصادية. في موازاة ذلك، خضعت مؤسسات التعليم والإدارة لعملية "عسكرة" بهدف خلق جيل إداري موالٍ، بلا طموحات سياسية مستقلة.
يتصدر السيسي نظامًا مركزيًا يتركز فيه القرار التنفيذي، لكنه يعتمد على دعم مؤسسات سيادية، وعلى رأسها القوات المسلحة. وفّر لها هامشًا واسعًا من الاستقلال الاقتصادي والسياسي، ومنحها حصة في المشاريع الكبرى، مما خلق اندماجًا متزايدًا بين النخبة العسكرية والطبقة الثرية.
أنشأ السيسي كيانات اقتصادية موازية لا تخضع لرقابة الحكومة أو البرلمان، مثل صندوق "تحيا مصر" وصندوق مصر السيادي، إلى جانب شركات تابعة للجيش تدير مشروعات بمليارات الدولارات. أدى ذلك إلى ظهور اقتصاد مزدوج: أحدهما رسمي تابع للحكومة، وآخر تحت سلطة الرئاسة والجيش، يخدم مصالح نخب النظام ويكرس اللامساواة.
يخلص يزيد صايغ، في ختام دراسته المنشورة عبر مركز كارنيجي للشرق الأوسط في مايو 2025، إلى أن "الجمهورية الثانية" – رغم تماسكها المؤسسي في القمة – تعاني من ضعف سياسي وفكري يجعلها عرضة للانهيار، خاصة مع تفاقم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية. قد لا تستمر بعد رحيل السيسي، لكن إرثها – المتمثل في عسكرة الدولة، تحجيم السياسة، وتفكيك العقد الاجتماعي – سيظل حاضرًا لفترة طويلة، سواء كان الأثر إيجابيًا أم سلبيًا.
https://carnegie-production-assets.s3.amazonaws.com/static/files/Sayigh-The%20Second%20Republic-1.pdf