منذ انقلاب 3 يوليو 2013 الذي أطاح بأول رئيس مدني منتخب ديمقراطيًا، دخلت مصر تحت حكم قائد الانقلاب العسكري عبد الفتاح السيسي مرحلة من عسكرة الاقتصاد، أبرز سمات هذه المرحلة تمثلت في التوسع غير المسبوق لدور الجيش في كافة القطاعات الاقتصادية، وعلى رأسها قطاع العقارات والبناء، الذي أصبح منجماً لمراكمة النفوذ والربح من دون رقابة حقيقية.
وفي هذا السياق، أعلنت وزارة الإسكان بحكومة الانقلاب في مايو 2025 عن إنشاء وحدة جديدة لتنظيم السوق العقارية، وإطلاق منصة إلكترونية تحت إشراف الدولة، في خطوة يراها خبراء أن النظام يقوم بمحاولة جديدة لإحكام قبضة العسكر على القطاع العقاري، وتحويله إلى أداة لضبط السوق وفق مصالح الدولة الأمنية لا الاقتصادية.
منصة عقارية تحت رقابة الدولة: رقمنة أم رقابة؟
المنصة العقارية التي تعتزم الحكومة إطلاقها، وفق ما أعلنه وزير الإسكان بحكومة الانقلاب العسكري عاصم الجزار، ستشمل تسجيل كل الوحدات السكنية المعروضة للبيع، وستُلزم الشركات العقارية بالإفصاح عن أسعارها، وخطط البناء، ومواعيد التسليم. رغم أن هذه الخطوة قد تبدو في ظاهرها إيجابية، إلا أن توقيتها وسياقها يثيران الريبة.
يرى خبراء عقاريون أن هذه المنصة ستُستخدم كأداة مراقبة مركزية، تحد من قدرة الشركات الخاصة على المناورة في سوقٍ بات مشبعًا بمشروعات الدولة، لا سيما "العاصمة الإدارية الجديدة"، التي ابتلعت وحدها أكثر من 400 مليار جنيه منذ 2015، دون تحقيق عوائد ملموسة للأغلبية من المواطنين.
لم تكن هذه المبادرة الأولى من نوعها، فقد بدأ مجلس النواب المصري منذ سنوات في إعداد حزمة قوانين لتنظيم السوق العقارية، منها قانون التطوير العقاري الذي يهدف إلى حماية المستهلك وتنظيم العلاقة بين المطور العقاري والمشتري، وإنشاء اتحاد للمطورين العقاريين ليكون الجهة الوحيدة المسؤولة عن العاملين في القطاع.
رغم ذلك، لم تترجم هذه القوانين إلى واقع ملموس بسبب التعقيدات السياسية والبيروقراطية، فضلاً عن تدخلات الأجهزة الأمنية التي تسيطر على القطاع العقاري بشكل غير معلن.
تأتي هذه الخطوة في ظل فشل السوق العقارية في مصر في تحقيق الشفافية والتنظيم المطلوبين، حيث يعاني القطاع من انتشار السماسرة غير المرخصين، وتضارب المصالح بين المطورين العقاريين والمشترين، بالإضافة إلى غياب نظام موحد لتسجيل العقارات.
وزارة الإسكان تسعى من خلال هذه الوحدة والمنصة إلى فرض رقابة صارمة على المعاملات العقارية، وتطبيق قانون الرقم القومي الموحد للعقارات، بهدف ضبط السوق وحماية حقوق الدولة والمستهلكين على حد سواء
تضخم الدور العسكري في قطاع الإسكان
شهدت السنوات الماضية تغولًا ملحوظًا للهيئات العسكرية في سوق البناء والإسكان. فوفقاً لتقارير متعددة، تقوم الهيئة الهندسية للقوات المسلحة بتنفيذ أكثر من 50% من مشروعات البنية التحتية الكبرى، ويُعطى لها التعاقد بالأمر المباشر دون مناقصات.
كما ترتبط بالشركات التابعة لجهاز مشروعات الخدمة الوطنية العديد من شركات التطوير العقاري. في 2020، صرّح السيسي صراحة قائلاً: "الجيش لازم يدخل في كل حاجة، علشان نضمن إنها تتعمل صح".
هذا التصريح لم يكن فقط تبريراً للتوسع العسكري، بل كشف عن منطق الهيمنة لا التنظيم، وهو ما جعل من السوق العقارية مجالاً لا منافسة فيه، بل تفوّقًا مضمونا للمؤسسات المرتبطة بالدولة والجيش.
غياب الشفافية
إحدى أبرز ملامح الأزمة العقارية في مصر هي غياب الشفافية، وغياب قواعد بيانات دقيقة تُظهر العرض والطلب والأسعار الحقيقية. هذه البيئة سمحت بارتفاع الأسعار بنسب تصل إلى 400% في بعض المناطق خلال عشر سنوات فقط.
في تقرير صادر عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء عام 2023، تبيّن أن نسبة تملك السكن في مصر تراجعت إلى أقل من 50%، بينما ارتفعت الشقق المغلقة وغير المستخدمة إلى أكثر من 12 مليون وحدة.
بدلاً من سياسات تعزز العرض وتقلل الاحتكار، أعلنت وزارة الإسكان في مايو 2025 عن وحدة لتنظيم السوق ومنصة عقارية، وهو ما وصفه عدد من خبراء الاقتصاد بأنه محاولة لشرعنة سيطرة الدولة على تدفق المعلومات وإقصاء المنافسين.
هروب الاستثمار الأجنبي وتعثر القطاع الخاص
في ظل هذه السياسات، شهدت مصر تراجعًا واضحًا في الاستثمارات الأجنبية في القطاع العقاري، فوفقاً لتقرير صادر عن البنك المركزي في ديسمبر 2024، انخفضت تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر إلى قطاع البناء والتشييد بنسبة 37% مقارنة بعام 2022.
ويعزو اقتصاديون هذا التراجع إلى البيئة الاحتكارية، وسياسات الإقصاء غير الرسمية التي تمارسها الجهات السيادية بحق الشركات غير المرتبطة بالدولة.
كما ارتفعت حالات الإفلاس والتعثر المالي بين شركات التطوير العقاري الصغيرة والمتوسطة، بعد أن أصبح الحصول على الأراضي، والموافقات، والتراخيص، مرتبطًا بشبكة علاقات معقدة مع الجهات الأمنية والمؤسسات العسكرية.