في شوارع القاهرة وأسواق المحافظات وورش المصانع ومزارع الريف، لم يعد من الغريب أن ترى أطفالًا لا تتجاوز أعمارهم 9 أو 10 سنوات يعملون لساعات طويلة في بيئات قاسية، بحثًا عن لقمة العيش، ظاهرة عمالة الأطفال، التي يفترض أنها محل تجريم دولي ومحلي، شهدت في مصر تصاعدًا مروعًا خلال العقد الأخير، مما يكشف عن خلل اقتصادي واجتماعي عميق ازداد حدة بعد انقلاب يوليو 2013، وسيطرة المؤسسة العسكرية على مفاصل الدولة.

 

أرقام مفزعة.. 2.3 مليون طفل عامل

وفقًا لأحدث تقارير منظمة العمل الدولية (مايو 2024)، فإن عدد الأطفال العاملين في مصر تجاوز 2.3 مليون طفل، أي نحو 14% من الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 5 و17 عامًا، هذا الرقم يمثل زيادة بنسبة 37% مقارنة بعام 2012، حين قدّرت النسبة بـ1.7 مليون طفل، بحسب الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء آنذاك.

وتشير الإحصائيات إلى أن ما لا يقل عن 61% من هؤلاء الأطفال يعملون في أعمال خطرة، سواء في ورش الحدادة والنجارة أو المزارع التي تُستخدم فيها مبيدات كيميائية ضارة، أو مصانع الملابس والمواد الغذائية، والأسوأ، أن قرابة 300 ألف طفل يعملون في أعمال شاقة داخل القطاع الصناعي غير الرسمي، في ظل غياب تام للرقابة أو الإنفاذ القانوني.

 

اقتصاد طارد للأطفال من المدارس

تكشف دراسة أجرتها منظمة اليونيسف بالتعاون مع وزارة التربية والتعليم المصرية (2023) أن أكثر من 53 %  من الأطفال العاملين تسربوا من التعليم الأساسي، لأسباب مرتبطة بالعجز المالي للأسر أو الحاجة لإعالة العائلة، وتوضح الدراسة أن محافظات الصعيد مثل المنيا وسوهاج وقنا تسجّل أعلى نسب تسرب مدرسي، ترتبط مباشرة بتفاقم الفقر وغياب برامج الحماية الاجتماعية الفعالة.

وقد علّق الخبير التربوي د. كمال مغيث في مقابلة صحفية مؤخرًا قائلاً: "ما يحدث اليوم هو قتل مبكر لطفولة ملايين الأطفال، وتحويلهم إلى عمالة رخيصة في خدمة منظومة اقتصادية عاجزة عن تحقيق النمو أو العدالة الاجتماعية".

 

فشل اقتصادي أم سياسة ممنهجة؟

منذ انقلاب 2013، رفعت السلطة شعار "الإصلاح الاقتصادي"، لكنها عمدت إلى إجراءات قاسية أضعفت القدرة الشرائية للأسر المصرية. ففي ظل تحرير سعر الصرف عام 2016 ورفع الدعم عن الوقود والكهرباء والخبز، ارتفعت تكلفة المعيشة بنسبة تتجاوز 200 % خلال أقل من 7 سنوات، وفقًا للبنك الدولي، وقد أدى ذلك إلى دفع الأسر الفقيرة والمتوسطة نحو الاستعانة بأبنائها للمساعدة في دخل العائلة.

وفي المقابل، لم تنفذ الدولة أي برامج مستدامة لحماية الأطفال من العمل القسري. بل إن الميزانية المخصصة لقطاع الحماية الاجتماعية للأطفال في موازنة 2024/2025 انخفضت بنسبة 19 % مقارنة بالعام المالي السابق، حسب تقرير المبادرة المصرية للحقوق الشخصية.

 

تصريحات متناقضة

رغم جسامة الأزمة، جاءت تصريحات المسؤولين الحكوميين متناقضة ومضلّلة، ففي فبراير 2024، صرّح وزير التضامن الاجتماعي بحكومة الانقلاب أن "عمالة الأطفال انخفضت بشكل ملحوظ بفضل برامج تكافل وكرامة"، متجاهلًا تقارير مستقلة تثبت العكس، وقد انتقدت منظمة هيومن رايتس ووتش هذه التصريحات، ووصفتها بـ"المناورة السياسية لإخفاء الفشل المؤسسي".

أما رئيس حكومة الانقلاب مصطفى مدبولي، فقد صرح في مارس 2025 أن "أولوية الحكومة الآن هي جذب الاستثمارات والمشروعات القومية الكبرى"، دون الإشارة إلى أي خطة لحماية حقوق الطفل أو القضاء على عمالة القصر، مما يعكس بوضوح تدني موقع الطفولة في أولويات الدولة.

 

مستقبل مهدد وجيل مكسور

إن عمالة الأطفال لا تمثل فقط مأساة إنسانية، بل كارثة تنموية طويلة الأمد، فحسب تقرير البنك الدولي (2023)، فإن كل سنة يقضيها الطفل خارج المدرسة تقلل من دخله المستقبلي بنسبة 10%، وتزيد احتمالية بقائه في دائرة الفقر بنسبة 23%، هذا يعني أن تفشي عمالة الأطفال اليوم يهيئ لانفجار اجتماعي في المستقبل، تغذّيه بطالة مزمنة، وجهل، وعنف.

ويرى الخبير الاقتصادي د. هاني توفيق أن "النظام المصري لا يملك رؤية تنموية حقيقية؛ فهو يُفرغ الميزانية في مشاريع لا تُدرّ دخلًا فعليًا، مثل العاصمة الإدارية، بينما يُترك الملايين فريسة للتهميش والفقر، ومنهم الأطفال".

 

الطفولة ضحية فشل دولة

بعد أكثر من عشر سنوات من الحكم العسكري، يتجسد الفشل الاقتصادي في مصر لا فقط في الدين الخارجي أو التضخم، بل في وجوه الأطفال المنهكين في الأسواق والمزارع والمصانع، هؤلاء الأطفال الذين كان ينبغي أن يكونوا في المدارس، أصبحوا مرآة صادمة لاقتصاد عاجز ونظام فقد أولوياته، ففي مصر اليوم، لم تعد الطفولة بريئة، بل أصبحت ضحية مباشرة لنظام يفتقد إلى الرؤية، والمحاسبة، والرحمة.