يشهد قطاع الرعاية الصحية في مصر أزمة متفاقمة بسبب النقص الحاد في أكياس الدم، لا سيما الفصائل النادرة مثل (O– وB– وAB–)، مما يهدد حياة آلاف المرضى يوميًا، خصوصًا في حالات الطوارئ والعمليات الجراحية. وبينما تعتمد المستشفيات على التبرعات الطوعية، تنتشر السوق السوداء ويستغل سماسرة الدم حاجة المرضى، في ظل غياب رقابة فعالة، ما يكشف عن خلل كبير في إدارة الموارد الصحية وضرورة تعزيز ثقافة التبرع الطوعي.
مأساة نقص الفصائل النادرة
وفي أروقة مستشفى "جمال عبد الناصر" بمدينة الإسكندرية، جلست أم خمسينية ترتدي جلبابًا بسيطًا، تمسح دموعها بطرف حجابها، وهي تراقب ابنها الشاب الممدد على سرير حديدي بارد بانتظار عملية جراحية عاجلة. كل شيء كان جاهزًا، ما عدا أمر واحد: كيس دم من الفصيلة النادرة (O–). رغم محاولات عائلته المستميتة وإطلاق نداءات استغاثة على مواقع التواصل، لم تتمكن إلا من تأمين كيسين فقط من أصل ثلاثة طلبتها إدارة المستشفى لإجراء العملية.
هذه المأساة ليست حالة فريدة، بل مشهد متكرر في المستشفيات المصرية الحكومية والخاصة، حيث تعاني البلاد من نقص حاد في أكياس الدم، خصوصًا الفصائل النادرة. وفق ما أفاد به أحد أطباء مستشفى "الميري الجامعي"، فإن ما لا يقل عن عشر عمليات جراحية حيوية تُؤجّل أسبوعيًا بسبب نقص أكياس الدم، مضيفًا أن المشكلة تتفاقم مع مرضى الأمراض المزمنة مثل أنيميا البحر المتوسط وسيولة الدم والفشل الكلوي، الذين يحتاجون لعمليات نقل دم متكررة.
في ظل هذا الواقع القاتم، لجأت "أم محمود"، وهي من منطقة اللبان، إلى فيسبوك لتطلب كيس دم من فصيلة B– لابنتها المصابة بسرطان الدم، فاستجاب أحدهم، لكن مقابل مبلغ مادي مرتفع. تقول: "دفعت له دون تردد، لأن حياة ابنتي أغلى من أي شيء". لكنها تؤكد أن المشكلة لم تكن في العدد، بل في النوع، فالفصيلة النادرة نفسها كانت غير متوفرة.
الخبير في أمراض الدم الدكتور خالد حلمي أوضح أن الفصائل النادرة مثل AB– وB– وO– لا تتجاوز نسبتها 3% من إجمالي المتبرعين، ما يصعّب تلبيتها، خاصة في حالات الطوارئ. كما أن ازدياد الولادات القيصرية وحوادث الطرق وانتشار أمراض الدم المزمنة، كلها عوامل أدّت إلى تضخم الطلب على أكياس الدم.
السوق السوداء
اللافت أيضًا أن هناك تفاوتًا كبيرًا في أسعار الدم بين المستشفيات، إذ يصل سعر الكيس الواحد في المستشفيات الخاصة إلى 2000 جنيه، مقابل 325 جنيهًا فقط في مستشفيات وزارة الصحة. ووسط غياب الرقابة، يجد المرضى أنفسهم مجبرين على تحمل نفقات مضاعفة، أو اللجوء إلى السوق السوداء.
في هذه السوق الموازية، ينشط سماسرة يبيعون أكياس دم بأسعار مرتفعة أو يربطون بين المرضى والمتبرعين مقابل عمولات. رنا عبد العليم، طالبة جامعية، تحكي كيف تعرضت للاحتيال من أحد السماسرة الذي أخذ منها 800 جنيه مقابل توفير متبرع، ثم اختفى. وتقول إن كثيرًا من الأسر تتعرض للاستغلال في لحظات ضعف ويأس.
رغم أن القانون يجرم بيع الدم، إلا أن الواقع يقول غير ذلك. موظف في بنك دم حكومي أفاد بأن بعض المتبرعين يطالبون بمقابل مادي أو "بدل انتقال"، مما يفتح الباب للتحايل على القانون. وأشار إلى أن المستشفيات تعتمد في الأساس على التبرعات التطوعية، وبالتالي فإن نقص الفصائل أو الدم بشكل عام يظل واردًا، لا سيما في الأزمات.
من جهتها، لم تنكر وزارة الصحة المشكلة، بل صرّحت الدكتورة فاتن مسعد، مسؤولة خدمات نقل الدم القومية، بأن الوزارة تعمل على مشروع لربط بنوك الدم إلكترونيًا على مستوى الجمهورية. لكن مسؤولًا في بنك الدم المركزي بالإسكندرية أوضح أن المشروع لا يزال في بدايته، ويواجه عقبات تتعلق بالبنية التحتية ونقص الكوادر المدربة.
وترى الدكتورة باكينام إبراهيم، طبيبة الطوارئ، أن الأزمة تتجاوز الجانب الفني لتكشف عن أزمة ثقة أعمق بين المواطن والنظام الصحي. تقول إن "كثيرين يرفضون التبرع بسبب الشك في مصير الدم المتبرع به، أو خوفًا من أن يُباع في السوق السوداء"، مؤكدة أن ثقافة التبرع الطوعي لا تزال ضعيفة في المجتمع.
ورغم هذه التحديات، يواصل البعض عطائهم بصمت. محمد خطاب، شاب يبلغ من العمر 25 عامًا، يتبرع بدمه بانتظام منذ الجامعة، ويقول: "فصيلة دمي نادرة، وأشعر أن من واجبي التبرع لمن هم في أمسّ الحاجة". وعلى غراره، تسعى مبادرات مجتمعية وطلابية، مثل "متبرع من غير مقابل" و"قطرة حياة"، إلى تعزيز ثقافة التبرع وتضييق الفجوة بين الطلب والعرض.
في بلد يتجاوز سكانه الـ105 ملايين، لا يزال الوصول إلى كيس دم في الوقت المناسب رفاهية لا يملكها الجميع. وبين مستشفيات مكتظة، ونظام صحي مرهق، وسوق سوداء لا ترحم، تبقى حياة المرضى معلّقة على قطرة دم.