في الوقت الذي تشهد فيه غزة واحدة من أسوأ الكوارث الإنسانية في تاريخها، تتكامل أدوار الاحتلال الإسرائيلي مع "المساعدات الأميركية" المزعومة، لا لتخفيف المعاناة، بل لإدارتها وتطويعها. ففي رفح جنوب القطاع، يتبدّى نموذج قاتم لهذا التخادم من خلال مؤسسة Gaza Humanitarian Foundation (GHF)، التي بدأت توزيع مساعدات غذائية منذ أواخر مايو الماضي، ضمن آلية يقول مسؤولون ومواطنون إنها تهدف إلى تفكيك المجتمع الفلسطيني، لا دعمه.

قصة الخمسيني أحمد عوض تختصر المعاناة: قطع الرجل أكثر من 20 كيلومتراً سيراً على الأقدام في رحلة محفوفة بالموت والجوع، فقط ليعود إلى خيمته في خانيونس بذراعٍ تنزف بعد أن سُرق منه الطرد الغذائي تحت تهديد السلاح الأبيض.
وعلى مدار ساعات طويلة، وقف عوض في طابور من عشرات الآلاف، تحت إشراف حراس أميركيين يطلقون النار، سقط فيها عشرات الشهداء والجرحى، ليتم توزيع 400 طرد فقط. الجوع في غزة لا يُسكت، بل يُدار.
 

مؤسسة خارج السياق الإنساني
   وفق ما يؤكده إسماعيل الثوابتة، مدير المكتب الإعلامي الحكومي بغزة، فإن المؤسسة الأميركية لا تلتزم بأي معايير إنسانية، بل تعمل بـ"أجندة سياسية مريبة"، تزرع التمييز وتزرع الفوضى.
ويشير إلى أن حصيلة الشهداء الذين سقطوا في سياق "صراع الطرود" وصلت إلى 450 شهيداً، فضلاً عن 3466 مصاباً، و39 مفقوداً، خلال أقل من شهر.

يقول الثوابتة: "ما يحدث ليس إغاثة، بل سلاح ضغط، وتكامل واضح بين سياسة الاحتلال في التجويع والحصار، والدور الأميركي في تمزيق النسيج المجتمعي"، في إشارة إلى تحويل الغذاء من وسيلة إنقاذ إلى أداة إذلال وتفكيك.
 

عصابات على الأرض... والاحتلال من الجو
   في مشهد متكرر، لا يكتفي المواطنون بقطع مسافات طويلة للحصول على ما يُسكت الجوع، بل يعودون فريسة لعصابات منظمة تترصّدهم في الطريق.
يروي الثلاثيني شادي جمعة أنه لا يستطيع التوجه لمراكز المساعدات دون حراسة شخصية من أشقائه وأبناء عمومته، بعضهم يحمل سلاحاً أبيضاً لحمايته.

لكن تلك "العصابات" ليست مجرد لصوص. بحسب الدكتور طلال أبو ركبة، الباحث في شبكة السياسات الفلسطينية، فإنها جزء من مشروع إسرائيلي – أميركي أوسع، لـ"هندسة الفوضى"، عبر خلق ميليشيات مسلحة بديلة عن المؤسسات الرسمية.
ويقول: "يجري إعداد هذه الجماعات مستقبلاً لحماية المساعدات، كبديل عن الحكومة والمقاومة، بما يخدم مشروع الاحتلال لتفكيك حماس، وإنتاج بديل صدامي ومدني مهزوم".

ومن أخطر هذه البؤر "تبة النويري"، طريق الموت في وسط القطاع، حيث يتحرك المواطنون سيراً بين غزة ورفح.
ويصف عبد الله نصر، من سكان غزة، كيف سرقه لصان تحت تهديد السكين بعد أن اشترى طحيناً بـ110 دولارات. لم يرحموه رغم توسله بأن أطفاله ينتظرون الخبز.
 

المساعدات تُباع في السوق السوداء
   بخلاف الشعارات، يتحول كثير من الطرود الغذائية إلى سلعة في السوق السوداء، وتُباع في سوق "فش فريش" برفح، كما تؤكد شهادات متقاطعة.
ويتحوّل سعي الإنسان للغذاء إلى مقامرة: إن نجح في تجاوز النار، فربما يسقط في براثن النهب، وإن نجح في حماية الطرد، قد يُسلبه لصوص بمحيط الأسواق، أو يُبتزّ بثمن باهظ.
 

مؤامرة على المجتمع
   يرى الثوابتة أن تفتيت المجتمع هو الهدف النهائي لهذا "النموذج الإغاثي"، وهو ما يتبدى في تعطيل المبادرات المجتمعية.
إذ هاجم عشرات المسلحين مخيماً إغاثياً كانت تشيده مؤسسة تركية في خانيونس نهاية مايو، وسرقوا الخيام وهواتف السكان، وأجهضوا المشروع.
ويُجمع الأهالي على أن المؤسسة الأميركية تشجع على بيئة من الفوضى، بدلًا من تقديم الدعم.
 

الشرطة تُلاحق تحت النيران
   ورغم كل المعوّقات، تواصلت جهود قوة "وحدة سهم" في غزة لملاحقة اللصوص، ونجحت في توقيف 50 منهم في شهري مايو ويونيو.
لكن المهمة محفوفة بالمخاطر، فالعصابات تتحصن في مناطق تخضع للاحتلال. وفي 29 مايو، استشهد ثمانية من رجال الشرطة بقصف إسرائيلي استهدفهم أثناء مطاردة عصابة في "مفترق السرايا".

تحقيقات داخلية في غزة كشفت أن بعض تلك العصابات يقودها عملاء للاحتلال، وتعمل بتنسيق مباشر لبث الرعب وزرع الانقسام، ضمن مشروع تفكيك المقاومة من الداخل.
 

من المأساة إلى التهجير الطوعي
   لم تعد الهجرة من غزة حلماً مؤجلاً، بل باتت بالنسبة لآلاف المواطنين طوق نجاة من الجوع والفوضى.
يقول أبو ركبة: "الاحتلال لا يكتفي بالقصف، بل يستخدم المعاناة اليومية كأداة ضغط نفسي لدفع الناس إلى الرحيل الطوعي"، وهو هدف معلن في أروقة الاحتلال، يُنفذ اليوم بمساعدة أدوات ناعمة تحت شعار الإغاثة.

في هذا السياق، يتكامل مشروع الاحتلال العسكري مع مشروع الفوضى المجتمعية – الإغاثية، لتُنتج البيئة المثالية لنشوء كيانات مسلحة بديلة، تكرّس الانقسام، وتُضعف المقاومة، وتُنهك المجتمع، وتفتح الباب لحلول سياسية جائرة تُفرض بقوة الحاجة.