في ظل تصاعد الأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي تعصف بالمواطن المصري، أعلنت وزيرة التنمية المحلية بحكومة الانقلاب، الدكتورة منال عوض، يوم 23 يونيو 2025، انطلاق المرحلة الثانية من الموجة 26 لإزالة التعديات على أراضي أملاك الدولة والأراضي الزراعية، تحت شعار "الحفاظ على حق الدولة"، لكنها في نظر كثير من الحقوقيين، ما هي إلا استمرار لنهج سلطوي يتجاهل حقوق البسطاء ويزيد من حدة الاحتقان الشعبي.

 

أرقام رسمية وأخرى مسكوت عنها

بحسب بيان وزارة التنمية المحلية، فقد أسفرت المرحلة الأولى من الموجة 26، التي انتهت في مايو 2025، عن إزالة أكثر من 35 ألف حالة تعدٍ على مستوى الجمهورية، بمساحة تجاوزت 5.3 مليون متر مربع من المباني، و16 ألف فدان من الأراضي الزراعية، وتشمل المرحلة الثانية، التي انطلقت هذا الأسبوع، 14 محافظة بينها القاهرة، الجيزة، الشرقية، البحيرة، وسوهاج.

لكن هذه الأرقام تفتقر للشفافية والتدقيق المستقل، حيث لا توضح حكومة الانقلاب حجم التعويضات (إن وُجدت)، أو إن كانت تلك الإزالات شملت مساكن مأهولة ومنازل لمواطنين فقراء يعيشون عليها منذ سنوات دون بديل سكني أو تعويض عادل.

 

مزاج المواطن في مرمى الجرافات

تصف هذه الحملات بأنها “تعكير لمزاج المواطن المصري” وإهانة لكرامته، خصوصًا في الريف والمناطق الشعبية، حيث تعيش آلاف الأسر على أراضٍ موروثة أو مشتراة دون توثيق رسمي كامل بسبب تعقيدات البيروقراطية.

يقول الدكتور عمرو هاشم ربيع، الباحث بمركز الأهرام للدراسات السياسية، إن "حملات الإزالة ليست المشكلة في ذاتها، بل في طريقتها وتوقيتها، حيث تأتي وسط أزمة اقتصادية طاحنة، وغياب أي حوار مجتمعي، وتجاهل لأبسط حقوق المواطنين في السكن والأمن الاجتماعي".

أما المحامي الحقوقي خالد علي، فيؤكد أن "هذه الحملات تستهدف الفقراء فقط، بينما تتجاهل فيلات رجال الأعمال ومشروعات كبار الضباط على أراضي الدولة أو حرم النيل".

 

مشاهد قاسية

شهادات من محافظة البحيرة والمنيا تشير إلى تنفيذ الإزالات بالجرافات دون سابق إنذار كافٍ، مما أدى إلى تشريد أسر كاملة، خاصة في مناطق العدوة ومغاغة والرحمانية، في قرية "بني مزار" وحدها، تم إزالة 76 منزلاً مأهولًا خلال 48 ساعة فقط، دون تقديم سكن بديل.

وتفيد تقارير صادرة عن المبادرة المصرية للحقوق الشخصية بأن "ما لا يقل عن 60% من الإزالات التي نُفذت خلال موجات 2023 و2024 لم تُراعِ المعايير الإنسانية"، مشيرة إلى أن "العديد من الإخطارات لم تُسلّم بشكل قانوني، وتمت الإزالات في ساعات الفجر أو منتصف النهار، وسط حراسة أمنية مشددة".

 

الحكومة.. الحزم في مواجهة الفوضى

من جهتها، تروج حكومة الانقلاب للموجات المتكررة من الإزالات على أنها "استعادة لهيبة الدولة"، وقالت الوزيرة منال عوض في تصريحات رسمية إن "الدولة لن تتهاون مع أي محاولة للاستيلاء على أملاكها"، مشددة على أن "كل من يُزال له بناء مخالف سيكون عليه تقنين أوضاعه أو الخروج الفوري".

لكن النقاد يرون أن هذه "الهيبة" تُفرض فقط على المواطن البسيط، بينما تُحاط تعديات كبار المحسوبين على النظام بالصمت والتجاهل.

أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة، أحمد يوسف أحمد، يرى أن حكم السيسي يمثل استمراراً لسياسات قمعية بدأت منذ ثورة يوليو 1952، حيث لم تتحقق التنمية الحقيقية، بل ازدادت الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، مما دفع الكثيرين إلى التعدي على الأراضي كوسيلة للبقاء.

ويضيف أن الحكومة تركز على المظاهر الأمنية والتنظيمية دون معالجة الأسباب الاقتصادية التي تدفع المواطنين للتعدي.

 

أسباب خفية.. الجباية أم الإصلاح؟

يرى الخبير الاقتصادي الدكتور مصطفى شاهين أن الموجات المتتالية من الإزالات تتزامن مع سعي الدولة لزيادة إيراداتها غير الضريبية، خصوصًا بعد فشلها في السيطرة على الدين العام الذي تجاوز 12 تريليون جنيه في 2025، وبلوغ العجز النقدي مستويات قياسية.

ويتابع شاهين: "ما يحدث هو مزيج من فرض الجباية بالعنف، والتخلص من المناطق الشعبية لتوسيع مشروعات عقارية موجهة للنخب، خصوصًا مع انتشار ظاهرة تحويل الأراضي الزراعية السابقة إلى مناطق استثمارية لصالح جهات سيادية".

 

مآلات وتداعيات

هذه السياسات قد تؤدي إلى انفجار اجتماعي وشيك، بحسب تقدير الدكتور محمد أبو العلا، أستاذ علم الاجتماع بجامعة المنوفية، الذي يحذر من "اتساع فجوة الثقة بين الدولة والمجتمع، وتزايد الشعور بالظلم الطبقي، مما قد يدفع الشباب إلى المزيد من العزوف عن الحياة العامة أو حتى التفكير في الهجرة بأي وسيلة".

كما أن استهداف القرى والمناطق الريفية بشكل خاص يعمق من تهميش تلك المناطق، التي تعاني أصلًا من نقص الخدمات، وانعدام فرص العمل، وهجرة العقول نحو العاصمة أو خارج البلاد.

 

دولة بلا عدالة

في ظل غياب برلمان حقيقي وصحافة حرة، تتحول مثل هذه الحملات من آلية قانونية لضبط التعديات إلى أداة قمع سياسي واقتصادي، تُنفذ ضد الفقراء وتُستثنى منها الطبقة المتحالفة مع السلطة، ويبدو أن نظام السيسي ماضٍ في نهجه دون اعتبار للآثار الاجتماعية أو للعدالة المجتمعية، فبدلاً من معالجة جذور الأزمة، يواصل النظام تحميل المواطن البسيط مسؤولية فشل التخطيط، وترك السوق العقاري نهبًا للمضاربين والجهات السيادية.