في مقهى متواضع بحي الهرم في القاهرة، يختلط دخان السجائر برائحة القهوة، والتوتر يسود الأجواء. مجموعة من الرجال الفلسطينيين يجلسون أمام تلفاز واهن الإضاءة يتابعون أخبار مفاوضات وقف إطلاق النار في الدوحة بصمت وقلق، بلا تصفيق أو فرح. فبالنسبة لهم، الهدنة لا تُعدّ خبراً عابراً، بل إمّا طوق نجاة أو خيبة جديدة.

منذ اندلاع الحرب الإسرائيلية على غزة في أكتوبر 2023، تحولت القاهرة إلى ملاذ قسري لآلاف الفلسطينيين الهاربين من القصف. ومع تصاعد الحديث عن تهدئة محتملة، لا تجمعهم رؤية واحدة تجاه ما سيأتي. بعضهم يحلم بالعودة، ولو إلى أنقاض، وآخرون يريدون فقط فسحة لالتقاط الأنفاس، بينما يشعر كثيرون بأنهم عالقون بين وطن دُمّر وبلد مضيف لا يمكن اعتباره وطناً دائماً.

تستضيف قطر في اليوم الثالث على التوالي مفاوضات غير مباشرة بين حماس وإسرائيل ضمن جهود دولية متجددة لوقف الحرب. وتحدثت مصادر مطلعة عن "تفاؤل حذر" وتقدم نسبي، واصفة هذه الجولة بأنها الأكثر جدية منذ أسابيع. ويسعى الوسيط القطري، بدعم من مصر والولايات المتحدة، لتقريب وجهات النظر وصياغة اتفاق يُنهي القتال ويمهد لحوار سياسي أوسع.
 

«سأعود حتى لو إلى الركام»
أبو خليل، 42 عامًا، غادر غزة بعد أن دُمّر منزله في خانيونس بغارة إسرائيلية. عبر معبر رفح إلى مصر، ويعمل الآن في محل خضار ويعيش مع أقاربه في شقة صغيرة بشارع فيصل. قال لـ"العربي الجديد": "القاهرة محطة، مش وطن. لو الهدنة ثبتت، هرجع حتى لو هنم في خيمة... غزة مش بس أرض، دي أهلي وجيراني وحياتي".

وأشار إلى شاشة التلفاز قائلاً: "الشاشة دي بتحدد مصيرنا". يرى أن الهدنة ليست نهاية، بل بداية محفوفة بأسئلة صعبة: كيف يعود الناس إلى بيوت لم تعد موجودة؟ من يقرر العودة؟ وماذا إن عاد القصف من جديد؟
 

«الهدوء لا يُعيد المفقود»
في شقتها بمدينة نصر، تتابع إيمان صلاح، 27 سنة، الأخبار على هاتفها دون تفاعل يُذكر. تخرجت من كلية الإعلام، وهربت من غزة بعد مقتل شقيقتها في غارة، وتعيش مع والدتها وأخيها، تقضي وقتها في تقديم طلبات لبرامج إعادة التوطين في الخارج. تقول: "مش هرجع... مش لأني نسيت غزة، لكن غزة خلصت. اللي باقي رماد وأشباح".

تحلم بالسفر إلى تركيا أو كندا. لا ترى في الهدنة سوى "سكون بيخلّي الوجع أعلى"، على حد وصفها.
 

«لحظة تنفس»
في ضواحي مدينة 6 أكتوبر، تعدّ أم نضال الشاي بالنعناع في مطبخ صغير، بينما تساعدها ابنتها الكبرى ببيع الفطائر على الرصيف. جاءت من بيت لاهيا بعد تدمير حيّها وإصابة زوجها بإعاقة دائمة. تقول: "الهدنة المرتقبة لحظة نلمّ فيها الأحياء ونودّع الموتى. محتاجين الهدوء ده علشان نلحق نرتاح ونشوف مين باقي مننا".

أضافت، وهي تعدل حجابها المرتجف: "دي تالت مرة أبدأ من الصفر. أول مرة في 2008، ثم 2014، ودلوقتي. لحد إمتى هنعيد البناء؟". وتؤكد أن السلام الحقيقي مش مجرد غياب قصف، بل عودة بكرامة وحقوق وأمان.

أيمن شاهين، أكاديمي فلسطيني يقيم في القاهرة، يوثق معاناة اللاجئين الجدد، وأشار إلى فجوة متزايدة بين الأجيال: "الكبار بيشوفوا الهدنة فرصة للرجوع، لكن الشباب شايفين إن مصر محطة عبور لأوروبا، مش مأوى".
أوضح أن معظم الفلسطينيين في مصر بلا صفة لاجئ رسمية، ويعيشون في ظروف هشة. وأضاف: "الهدنة لا تحلّ الغموض، بل تزيده. هل يرجعوا؟ هل يستقروا؟ هل يسافروا؟ كل الخيارات بقت وجودية".
,تابع: "مفيش وضوح في من هيدير غزة، أو إزاي هيتم الإعمار، أو إيه الضمانات. الناس مستنية، بس مش عارفة مستنية إيه بالضبط".
 

أرجع؟ مش على الجحيم
   في مدينة مدينتي بالقاهرة الجديدة، تحتضن ليلى محمد، 34 سنة، ابنتها الصغيرة وهي تطوي الغسيل في شقة من غرفتين.
وصلت إلى مصر مع أولادها الأربعة بعد مقتل زوجها في قصف على رفح. تقول: "لو فتحوا المعبر بكرة، مش عارفة هرجع ولا لأ. هنعيش فين؟ وناكل إيه؟ عايزة أرجع، بس مش على الجحيم".

ليلى تعتمد على تبرعات وشبكات دعم غير رسمية، ونجحت في إلحاق أولادها بمدرسة محلية، لكن انعدام الاستقرار ينهشها. وتقول: "غزة وطني، بس أمان أولادي أهم. الهدنة مش ضمان".

,شهدت مصر موجات نزوح فلسطينية من قبل في 1948، و1967، وأثناء الانتفاضات. لكن الوضع الحالي مختلف، فالدمار شبه كامل، والقيادة السياسية منقسمة، والمستقبل غامض.

ما يجمع الفلسطينيين في مصر الآن هو الهشاشة المشتركة. المفاوضات تُجرى في عواصم بعيدة، والنازحون محاصرون بين ماضٍ موجع ومستقبل مجهول.
بعضهم لا يزال يحلم بالعودة، والبعض الآخر فقد الأمل، لكنهم جميعًا يدركون أن الهدنة، إن حدثت، لن تكون النهاية، بل بداية فصل جديد... فصل لم يختاروه، ولا يعلم أحد إلى أين سيمضي.

https://www.newarab.com/news/gazas-displaced-egypt-brace-ceasefire-without-peace