18 فتاة من العاملات الزراعيات لقين مصرعهن في يونيو الماضي بحادث مأساوي على الطريق الإقليمي، ليتحول الحادث من فاجعة إنسانية إلى جرس إنذار صارخ بشأن أوضاع العاملات في القطاع الزراعي، كما كشف تقرير حديث للجبهة المصرية لحقوق الإنسان، يصف فيه الانتهاكات اليومية التي تتعرض لها آلاف النساء القرويات العاملات في الزراعة.
الربح قبل الإنسان.. سياسات زراعية لا ترى النساء
بحسب التقرير الحقوقي الصادر حديثًا، فإن حادث مصرع الفتيات العاملات بالزراعة لم يكن نتيجة "ظروف عرضية" كما تحاول بعض الجهات الرسمية تصويره، بل "نتيجة مباشرة لسياسات اقتصادية تُغَلِّب الربح والتصدير على حساب الحقوق الإنسانية للعاملات"، خاصة في ظل غياب الحماية القانونية للنساء اللاتي يعملن في هذا القطاع تحت ظروف تُوصف بأنها "شبه عبودية".
فبينما كان وزير الزراعة يروّج أمام منظمة الأغذية والزراعة بالأمم المتحدة (الفاو) لرؤية مصر حول "سلاسل زراعية مستدامة"، كانت دماء الفتيات تروي طرقًا مهملة، وتُفصح عن واقع مرير تواجهه الآلاف ممن تُطلق عليهن التقارير الدولية "عاملات الظل".
أجور زهيدة.. أطفال يعملون.. وساعات طويلة بلا حماية
يوضح التقرير أن العاملات، وغالبًا ما يكنّ فتيات قاصرات، يتقاضين أجورًا متدنية تتراوح بين 70 إلى 120 جنيهًا يوميًا، في ظل موجات تضخم متلاحقة وتراجع القوة الشرائية للجنيه، وهي معدلات أجور لم تتغير منذ عام 2018.
ويتابع التقرير أن الكارثة كشفت عن مخالفات جسيمة للقانون، أبرزها تشغيل فتيات دون سن الخامسة عشرة، في بيئات غير آمنة وساعات عمل تتجاوز 12 ساعة يوميًا، مما يتناقض مع الحد الأقصى القانوني المحدد بست ساعات يوميًا للأطفال العاملين.
وتمتد الانتهاكات لتشمل غياب وسائل الوقاية الصحية، حيث تعمل الفتيات دون أقنعة أو قفازات في بيئات مُحمّلة بالمبيدات والأسمدة الكيماوية، مما يشكّل خطرًا مباشرًا على صحتهن الجسدية والإنجابية.
الاستراتيجية الوطنية لتمكين المرأة.. شعارات بلا مضمون
هاجم التقرير "الاستراتيجية الوطنية لتمكين المرأة 2030" التي أطلقتها الحكومة، واصفًا إياها بأنها "خطة غير شاملة"، تركز على تمكين النساء في القطاعات الرسمية وتتجاهل العاملات في القطاع غير الرسمي رغم أن الزراعة تستحوذ على 25% من قوة النساء العاملة.
ويؤكد التقرير أن الاستراتيجية لم تقدم أي آليات عملية أو تنفيذية لحماية النساء في الحقول، واكتفت بعبارات فضفاضة، تاركة العاملات عرضة للاستغلال دون تدخل فعّال من الدولة أو الجهات الرقابية.
القانون الجديد لا ينصفهن.. والحماية مؤجلة
ويطرح التقرير تساؤلات حول جدوى قانون العمل الجديد المنتظر تطبيقه في سبتمبر 2025، معتبرًا أنه لا يمنح العاملات الموسميات أي ضمانات حقيقية.
فالقانون يفوّض تنظيم شؤونهن إلى قرارات وزارية غير مُلزمة، ما يُبقي الوضع على حاله، دون عقود عمل، أو تأمينات، أو حد أدنى للأجور.
وسائل نقل متهالكة وموت جماعي متكرر
في حادثة يونيو، كانت العاملات يستقلن سيارة متهالكة يطلق عليها "ربع نقل"، يديرها "مقاول أنفار" لا يخضع لأي رقابة حكومية، ويحمّل السيارة بعدد يتجاوز طاقتها لتوفير التكاليف، مما جعل الحادثة "متوقعة لا مفاجئة"، بحسب التقرير.
وتؤكد الجبهة الحقوقية أن غياب وسيلة نقل آمنة يمثل واحدًا من أبرز أوجه الإهمال والاستغلال للعاملات، حيث لا يلتزم أصحاب العمل بأي مسؤولية عن سلامة العاملات في أثناء الانتقال من الحقول إلى القرى.
التعويضات.. وعود معلقة وخصومات مفروضة
التقرير أثار أيضًا مخاوف حول مصير التعويضات التي وُعدت بها أسر الضحايا، مشيرًا إلى وجود شهادات تفيد بأن بعض الجهات الإدارية طلبت من الأسر التنازل عن نصف مبلغ التعويض "تبرعًا للدولة"، مما يطرح تساؤلات حول مصداقية الجهات المسؤولة وشفافية التعويضات.
سجل طويل من الكوارث المتكررة
حادثة المنوفية لم تكن الأولى من نوعها؛ ففي مايو 2024، لقيت 17 فتاة مصرعهن وأصيبت 8 أخريات بعد سقوط ميكروباص في نهر النيل بمنطقة أبو غالب، وكن عائدات من العمل بمزارع محافظة المنوفية.
أما في يناير 2022، فقد لقي 8 شباب وفتيات، معظمهم دون الـ18، حتفهم بنفس الطريقة، بعد سقوط سيارة تقلهم في فرع رشيد بالنيل، أثناء عودتهم من مزرعة دواجن، وكلها حوادث تعكس نمطًا متكررًا من غياب السلامة في نقل العاملات.
وفي بيان منفصل، وصفت الحركة المدنية الديمقراطية الحادث بأنه "صورة موجعة لانعدام العدالة الاجتماعية"، محملة الدولة مسؤولية توفير الحد الأدنى من الأمان والكرامة للنساء العاملات في الحقول.