شهدت سوق مواد البناء في مصر خلال الأيام الأخيرة ارتفاعًا ملحوظًا في أسعار الأسمنت الرمادي، إذ بلغ سعر الطن حوالي 3988 جنيهًا مصريًا، بزيادة تقدر بـ 43 جنيهًا مقارنة بأسعار الأسبوع السابق.

هذا الارتفاع يأتي في سياق تصاعدي مستمر شهدته أسعار المواد الإنشائية منذ مطلع عام 2024، ما دفع الكثير من المطورين العقاريين والمواطنين إلى التعبير عن قلقهم من انعكاسات ذلك على تكلفة البناء وأسعار الوحدات السكنية.

 

الأسباب الكامنة لموجات الغلاء المتتالية؟!

يرجع خبراء الاقتصاد والقطاع العقاري أسباب هذا الارتفاع إلى عدد من العوامل المتشابكة، أبرزها:

  • ارتفاع تكلفة الطاقة: بعد قرارات الحكومة بزيادة أسعار الكهرباء والوقود في يوليو 2024، ارتفعت تكلفة تشغيل المصانع، خاصة تلك المعتمدة على الوقود الثقيل أو الغاز الطبيعي، ما انعكس على سعر المنتج النهائي.
  • انخفاض قيمة الجنيه المصري: استمرار تراجع سعر صرف الجنيه مقابل الدولار، والذي تجاوز حاجز 50 جنيهًا للدولار في السوق الموازية منتصف يوليو 2025، أدى إلى زيادة تكلفة استيراد المواد الخام والمكونات الصناعية.
  • أزمة السيولة وشح النقد الأجنبي: بحسب بيانات البنك المركزي المصري، انخفضت احتياطيات النقد الأجنبي إلى 32.1 مليار دولار بنهاية يونيو 2025، ما فاقم أزمة استيراد المواد الأولية ورفع الأسعار محليًا.
  • سيطرة شركات تابعة للجيش: يتهم عدد من الاقتصاديين جهات سيادية باحتكار إنتاج وتوزيع الأسمنت عبر كيانات اقتصادية تابعة للجيش، مثل "شركة العريش للأسمنت" التابعة لجهاز مشروعات الخدمة الوطنية، ما يقلص التنافسية ويؤثر على آليات السوق.

 

الحديد والطوب والزلط.. الارتفاع يشمل الجميع

الأسمنت لم يكن المادة الوحيدة التي شهدت ارتفاعًا. فبحسب تقرير شُعبة مواد البناء بالغرفة التجارية بالقاهرة في 24 يوليو 2025:

  • ارتفع سعر طن الحديد ليسجل ما بين 41,000 إلى 44,000 جنيه حسب المصنع، مقارنة بمتوسط 37,000 جنيه قبل ثلاثة أشهر.
  • سجل سعر ألف طوبة حمراء نحو 1850 جنيهًا، بزيادة تجاوزت 12% خلال النصف الأول من 2025.
  • كما ارتفع سعر المتر المكعب من الزلط إلى 580 جنيهًا، وسعر متر الرمل إلى نحو 420 جنيهًا، في بعض المحافظات.

 

في تعليقه على الأزمة، قال المهندس أحمد الزيني، رئيس شعبة مواد البناء، إن "السوق يعاني من حالة ركود شديدة، وارتفاع الأسعار ليس له ما يبرره في بعض الأحيان سوى تحكم جهات محددة في الإنتاج والتوزيع"، مضيفًا في حديثه لقناة "الحدث اليوم" بتاريخ 23 يوليو: "لو كانت السوق مفتوحة ومبنية على العرض والطلب الحقيقي، لما شهدنا هذه القفزات المفاجئة".

أما المتحدث باسم وزارة الإسكان، فقال في تصريحات صحفية بتاريخ 25 يوليو: "الزيادات ناتجة عن عوامل عالمية وظروف اقتصادية خارجة عن السيطرة، ونعمل على ضبط السوق من خلال مراقبة الأسعار وتشجيع الاستيراد".

 

لماذا لم ترتفع أسعار الطفلة؟

وسط هذا الارتفاع الشامل، يبقى الطفلة، وهي مادة طينية تُستخدم في صناعة الأسمنت، أحد المواد القليلة التي لم ترتفع أسعارها بشكل كبير، ويرجع ذلك إلى:

  • وفرة محلية وعدم اعتماد على الاستيراد.
  • استخراجها من أراضٍ خاضعة للدولة والجيش، دون رسوم أو ضرائب حقيقية على الإنتاج، ما يجعل تكلفتها منخفضة.
  • عدم تعرضها لمنافسة سوقية، إذ لا تُستخدم إلا في قطاع محدود (صناعة الأسمنت) ولا تدخل في الاستخدام المنزلي المباشر أو قطاع التجزئة.

 

انعكاسات اقتصادية واجتماعية

ارتفاع أسعار مواد البناء ينعكس بوضوح على القطاعات الاقتصادية المختلفة:

  • القطاع العقاري: توقعت شركة "مينا للتطوير العقاري" في تقريرها ربع السنوي (يوليو 2025) أن ترتفع أسعار الشقق والوحدات السكنية بنسبة تصل إلى 20% مع نهاية العام الحالي.
  • تراجع البناء الأهلي: بحسب تصريحات نائب رئيس اتحاد المقاولين، تراجعت طلبات تراخيص البناء الفردي بنسبة 35% في النصف الأول من 2025 مقارنة بنفس الفترة من 2024.
  • زيادة البطالة المؤقتة: مع تقليص المقاولين لحجم الأعمال، تم تسريح الآلاف من العمالة اليومية، ما يزيد الضغط الاجتماعي، خاصة في الصعيد والدلتا.

تشير تقارير اقتصادية مستقلة إلى أن السياسات المركزية لحكومة الانقلاب، وتضخم نفوذ الجيش في الاقتصاد، أديا إلى تشوهات هيكلية في السوق، فاحتكار المواد الأساسية، وغياب الرقابة الحقيقية، كلها عوامل أسهمت في هذا الغلاء.

وفي تصريح لـ"مركز الحرية الاقتصادية"، قال الخبير المالي هاني توفيق: "أي سلعة تسيطر عليها جهة واحدة، لا بد أن تخرج عن منطق العرض والطلب، السوق المصرية أصبحت بلا آليات حقيقية، بل تحركها الأوامر والتوجيهات، وهذا يؤدي في النهاية إلى انهيار اقتصادي واجتماعي".

مع استمرار الضغط على الجنيه المصري، وغياب الحلول الاقتصادية الجذرية، من المرجح أن تستمر الأسعار في الارتفاع، خاصة مع اقتراب تنفيذ حزمة جديدة من شروط صندوق النقد الدولي، والتي تشمل رفع الدعم عن الوقود والمزيد من إجراءات التقشف.

المواطن المصري، الذي يواجه ارتفاع أسعار الغذاء والدواء، يجد نفسه الآن أمام أزمة إسكان جديدة، في وقتٍ لا تزال فيه الدولة تركز على مشاريع "العاصمة الإدارية" والبنية الفوقية، على حساب تحسين معيشة غالبية السكان.