في تصريح جديد أثار موجة من السخرية والاستياء، قال عبد الفتاح السيسي أمام جمع من أنصاره:"إيدينا مش ملطخة بدماء حد، ولا أموال حد، ولا بالتآمر على حد، والله مبنخافش... ومبنخافش غير من ربنا وبنعمل له حساب كبير قوي."
تصريح يبدو للوهلة الأولى مشحونًا بالثقة والورع، لكن ما إن يُعرض على محكمة الوقائع والذاكرة، حتى ينكشف حجم التناقض بين ما يُقال على المنصة، وما حدث على الأرض منذ انقلاب يوليو 2013 على الرئيس المنتخب ديمقراطيًا، د.محمد مرسي.
كيف يمكن لرجل قاد انقلابًا عسكريًا على إرادة شعب أن يدّعي أن يديه "غير ملوثة"؟ وكيف يمكن لمن أمر أو سمح بأكبر مذبحة سياسية في تاريخ مصر الحديث – مجزرة رابعة العدوية – أن يقول إنه لا يخاف لأن "من يعمل شيئًا خاطئًا فقط هو من يخاف"؟.
#المتعاص: حين يتكلم الفراغ بلغة القوة
لم تكن مفاجئة ردة فعل النشطاء على مواقع التواصل. خلال ساعات من تصريح السيسي، عاد للواجهة وسم #المتعاص، الذي أطلقه معارضون لوصف الرئيس بكلمة هجينة تعبّر عن حالة من التناقض: بين التشدق بالقوة والخوف من الكلمة، بين استدعاء الدين وتحقير العدالة، بين خطاب الوعظ وواقع البطش.
الوسم ليس إساءة، بل توصيف لواقع سلطة لا تحتمل النقد، وتعيش عقدة الخوف رغم كل مظاهر السيطرة.
فقالت الناشطة نسرين نعيم "نفس الكلام اللي قاله بعد ما رجع من جولة أوروبا علي ملا وشه بعد الثورة السورية ولم إعلام السامسونج حواليه في العاصمة الإدارية ( المتعاص) فاكرين اهو بيكرر نفس الكلام النهاردة في الكلية الحربية ،ونفي النفي اكتر من مرة في حد ذاته أثبات قوي وأقوي دليل علي انه إيديه فعلاً ملطخة بالـدم".
https://x.com/nesrinnaem144/status/1953142357890683357
وأضاف الاعلامي أيمن عزام " بس هناك تطور ملحوظ في اللغة من —-إيدينا مش ( متعاصة ) بالدم —— لتصبح ——إيدينا مش ( ملطخة ) بالدم ——— معلش يعني لازم نشهد بالحق".
https://x.com/AymanazzamAja/status/1953276467288199326
ثم أشار "#مجزرة_رابعة اللعنة التي حلّت و لن تبرح مهما طال الأمد حتى يكتوي بنار ثأرها من كل من خطط و أمر و نفذ و كل من هلل و صفق و أيد و فوَض و يبقى ما عند الله أشد و أخزى".
https://x.com/AymanazzamAja/status/1953258125269860476
ونشر الشيخ سلامة عبد القوي " يا خائن الأمة وبائع الدماء ، يا من خذلت غزة، وخنت فلسطين، وتآمرت على شعبك وأهلك… سيشهد عليك التاريخ، وستبقى دماء الأبرياء لعنة تطاردك، وسينتقم الله منك عاجلًا غير آجل."
https://x.com/AbdelkawySalama/status/1952808115273122044
الناشط أحمد البقري "قبل قليل: #السيسي: إيدي مش ملطخة بدماء حد ولا أموال حد ولا بالتآمر على حد. واضح ان الخيانة والدماء تلاحقه دائما".
https://x.com/AhmedElbaqry/status/1953079969988419699
ولفت حسام رجب "#المتعاص بيقول "إيدينا مش ملطخة بدماء ولا أموال".. ولم نخون ولانتأمر و يتحدث عن الخوف من الحساب في الدنيا والآخرة طب المحترم الخلوق ده اى جريمة ارتكبها عشان يعتقله ل سنوات؟! #ارحل_ياسيسي #السيسي_خاين_وعميل".
https://x.com/Husamrag/status/1953202513857134619
دماء في الميادين... لا تختفي بالتصريحات
بدأت جرائم النظام منذ لحظة الانقلاب، وتجلّت أولًا في مجازر الحرس الجمهوري والمنصة ورابعة والنهضة، حيث قُتل الآلاف من المتظاهرين السلميين – رجالًا ونساءً، شيوخًا وأطفالًا – برصاص حي ودبابات وجرافات تُسحب بها الجثث.
لا يزال المجتمع الدولي، رغم صمته السياسي، يحتفظ في تقاريره الحقوقية بتوثيق هذه الجرائم. منظمات مثل هيومن رايتس ووتش وصفت مجزرة رابعة بأنها "واحدة من أسوأ وقائع القتل الجماعي للمتظاهرين في يوم واحد في التاريخ الحديث". هذه الدماء وحدها تكفي لتسقط أي مزاعم عن الطهر والنزاهة.
الآلاف في السجون... بتهم ملفقة ومحاكمات عبثية
يتحدث السيسي عن "عدم التآمر"، بينما تكتظ السجون المصرية بأكثر من 60 ألف معتقل سياسي، وفقًا لتقديرات منظمات حقوقية دولية. معظم هؤلاء لم يرتكبوا جرائم حقيقية، بل تم سجنهم لمعارضتهم السياسية أو مشاركتهم في تظاهرات أو حتى كتابة منشورات على فيسبوك.
قُتل المئات بالإهمال الطبي والتعذيب في السجون، بعضهم أسماء بارزة، وآخرون من الشباب والفتيات الذين لم يسمع بهم الإعلام، لكنهم جميعًا دفعوا ثمنًا لرفضهم ديكتاتورية السيسي. فهل هذا أيضًا لا يُعد "تآمرًا على حد"؟
مصادرة الأموال... عدالة انتقامية لا قانونية
منذ 2013، شنت الدولة حملة ممنهجة لمصادرة أموال المعارضين، بدءًا من قيادات الإخوان المسلمين مرورًا برجال أعمال شرفاء، وصولًا إلى مؤسسات تعليمية وخيرية. تم تأميم مئات الشركات والمدارس والمستشفيات بدعوى "الانتماء لجماعة محظورة"، دون أحكام قضائية نهائية، بل بموجب قرارات لجنة حكومية استثنائية، تعمل كأداة انتقام.
أموال اليتامى والفقراء لم تسلم من هذه المصادرات. بل إن الدولة استخدمت هذه الأموال لدعم صندوق "تحيا مصر"، في استعراض فجّ لشرعنة السطو باسم الوطنية. فأي "أيدٍ نظيفة" تلك التي تصادر أموال الناس بلا دليل ولا محاكمة عادلة؟
"مبنخافش"... أم تُخيف الجميع؟
حين يقول السيسي "مبنخافش"، يبدو ذلك جزءًا من صورة الزعيم المتماسك، لكن الواقع أن نظامه هو الأكثر اعتمادًا على القمع الأمني، والرقابة، وبث الرعب في النفوس.
كم صحيفة تم إغلاقها؟
كم معارض تم تشويهه إعلاميًا ثم سجنه؟
كم شاب أُخفي قسريًا؟
كم مواطن تم تهجيره قسرًا من سيناء بحجة الأمن؟
نظام يخاف حتى من كتاب، من مغرد، من مظاهرة طلابية. يخاف من أبسط تعبير عن الرأي. فمن إذًا الذي "يعمل حاجة غلط وبيخاف يتحاسب"؟
الخلاصة: الكلمة لا تمحو الجريمة
تصريحات عبد الفتاح السيسي الأخيرة ليست مجرد تلاعب لفظي، بل محاولة لإعادة صياغة السردية السياسية والإنسانية لما جرى ويجري في مصر. لكن التاريخ لا يُنسى، والضحايا لا يصمتون، وإن طال الزمن.
أن تقول "مبنخافش" بينما تصنع دولة بوليسية، وأن تقول "إيدينا مش ملطخة" بينما تغرق البلاد في الدم والاعتقال والمصادرة، هو بالضبط ما جعل الناس يطلقون عليك لقبًا مثل "المتعاص" — ليس سخرية فقط، بل اختصارًا مكثفًا لزمن كامل من التضليل والتناقض.