في تطور لافت ومؤشر على تصاعد العزلة السياسية والاقتصادية لإسرائيل، أعلنت سلوفينيا رسميًا حظر استيراد المنتجات المصنعة في المستوطنات الإسرائيلية غير الشرعية في الأراضي الفلسطينية المحتلة.
جاء القرار على وقع الغضب الدولي المتزايد من الحرب المستمرة على غزة منذ 7 أكتوبر 2023، والتي خلّفت أكثر من 38 ألف شهيد، معظمهم من الأطفال والنساء، في واحدة من أكثر الحملات العسكرية دموية في التاريخ الحديث.
القرار: موقف سياسي أم ضغط شعبي؟
بحسب مصادر حكومية سلوفينية، فإن الحظر يستند إلى مبدأ احترام القانون الدولي، والذي يعتبر المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية ومرتفعات الجولان غير شرعية بموجب اتفاقيات جنيف.
كما يأتي القرار تجاوبًا مع حملة شعبية وضغوط من منظمات حقوقية طالبت الحكومة باتخاذ موقف عملي تجاه الانتهاكات الإسرائيلية المتواصلة.
ويشير مراقبون إلى أن القرار يمثل رسالة سياسية واضحة بأن سلوفينيا لا تقبل التواطؤ مع جرائم الاحتلال، خصوصًا في ظل توثيق تورط المستوطنات في نهب الأراضي، وحرمان الفلسطينيين من الموارد، والمساهمة في سياسة الفصل العنصري.
ردود فعل إسرائيلية غاضبة... وصمت أوروبي
الرد الإسرائيلي لم يتأخر، حيث وصفت وزارة الخارجية القرار بأنه "منحاز"، واتهمت سلوفينيا بـ"تبني خطاب حركة المقاطعة BDS".
إلا أن الاتحاد الأوروبي لم يصدر موقفًا موحدًا حتى الآن، ما يكشف عن التردد الأوروبي في التعامل الصارم مع إسرائيل رغم الانتهاكات الموثقة.
لكن سلوفينيا لم تكن الدولة الأولى، فقد سبقها كل من إيرلندا، بلجيكا، والنرويج بإصدار تحذيرات استهلاكية أو قيود استيراد على منتجات المستوطنات، وبعضها دعا بشكل واضح لمقاطعتها.
المقاطعة الاقتصادية: سلاح الشعوب في وجه آلة القتل
قرار سلوفينيا يعيد تسليط الضوء على الحراك الدولي المتنامي لمقاطعة منتجات المستوطنات الإسرائيلية.
حملة "BDS" (المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات)، التي انطلقت عام 2005، اكتسبت زخمًا متجددًا بعد حرب غزة الأخيرة.
فقد شهدت الأشهر الماضية تصاعدًا لافتًا في الاستجابة الشعبية والدولية لدعوات المقاطعة، تمثل في:
1. انسحاب شركات كبرى من السوق الإسرائيلي
شركة H&M واجهت حملة ضخمة لمقاطعتها بسبب استمرار نشاطها داخل إسرائيل، ما اضطرها إلى التراجع عن بعض الأنشطة الإعلانية.
شركة HP (هيوليت باكارد)، التي توفر أنظمة تكنولوجية للجيش الإسرائيلي، تواجه دعوات مقاطعة واسعة، وقطعت بالفعل بعض المؤسسات شراكاتها معها.
شركة Ben & Jerry’s، اتخذت قرارًا سابقًا بعدم بيع منتجاتها في المستوطنات الإسرائيلية، ما أدى إلى خلاف قضائي بينها وبين الشركة الأم.
2. مطاعم ومقاهي تتخذ مواقف صريحة
في الولايات المتحدة، أعلنت عشرات المطاعم المستقلة في نيويورك وشيكاغو وقف بيع المنتجات الإسرائيلية تضامنًا مع غزة.
في بريطانيا، رفعت سلسلة من المقاهي لافتات تعلن أنها "خالية من المنتجات الإسرائيلية" منذ نوفمبر 2023.
3. جامعات ومجالس طلابية تقاطع الاحتلال
أعلنت جامعات مثل هارفارد وكامبردج وتورنتو عن تصويت مجالسها الطلابية لصالح المقاطعة الأكاديمية لإسرائيل.
هذه القرارات تأتي في ضوء التقارير التي تؤكد تواطؤ جامعات إسرائيلية في تطوير أسلحة وتقنيات مراقبة تُستخدم ضد المدنيين في غزة.
أصوات من الداخل: المقاطعة أداة أخلاقية
لا تقتصر حملة المقاطعة على الأصوات الخارجية، بل انضم عدد من المفكرين اليهود والأكاديميين المناهضين للصهيونية إلى دعوات المقاطعة، معتبرين أن استمرار التعامل الاقتصادي مع إسرائيل يمثل "تمويلاً غير مباشر للجرائم ضد الإنسانية".
الباحث الإسرائيلي اليساري جدعون ليفي قال في مقال نشرته "هآرتس" مؤخرًا: "لن تتوقف إسرائيل ما لم تشعر بثمن سياسي واقتصادي. المقاطعة السلمية هي أقل ما يمكن فعله لوقف نزيف الدم".
الموقف القانوني: منتجات المستوطنات "مسروقة"
من الناحية القانونية، تعتبر الأمم المتحدة أن أي نشاط اقتصادي في المستوطنات يمثل انتهاكًا للقانون الدولي.
وقد أصدرت مفوضية حقوق الإنسان الأممية عام 2020 قائمة تضم أكثر من 100 شركة دولية متورطة في أنشطة داخل المستوطنات، وطالبتها بوقف هذا النشاط.
ومع اتساع رقعة المقاطعة، تواجه بعض الدول ضغوطًا داخلية لسنّ قوانين تمنع استيراد تلك المنتجات، أو على الأقل تُلزم الشركات بوضع ملصق واضح يفيد أن المنتج صادر عن مستوطنة إسرائيلية.
لماذا القرار السلوفيني مهم؟
يمثل قرار سلوفينيا سابقة أوروبية على مستوى التنفيذ العملي، وليس فقط المواقف الرمزية.
فبجانب كونه يعزز الشرعية الدولية لحقوق الفلسطينيين، فهو أيضًا يدعم الجهود الشعبية حول العالم لمواجهة الاحتلال عبر الوسائل السلمية.
يقول المحلل السياسي السلوفيني ماتي جريتش: "قرارنا ليس موجهًا ضد إسرائيل كدولة، بل ضد سياستها الاستيطانية العنصرية. لا يمكن أن ندّعي دعم السلام بينما نمول الاحتلال".
هل تتوسع المقاطعة؟
تشير المؤشرات إلى أن قرارات المقاطعة ستتوسع في الشهور المقبلة، خاصة مع دخول دول أمريكا اللاتينية على خط الضغط، مثل:
بوليفيا: قطعت علاقاتها الدبلوماسية بالكامل مع إسرائيل.
كولومبيا: أوقفت صفقات عسكرية، وأدانت الجرائم في غزة علنًا.
تشيلي: تشهد موجة غضب شعبي ونقابات تدعو للمقاطعة.
حملة المقاطعة... من الهامش إلى التأثير الحقيقي
ما كان يُنظر إليه سابقًا كحملة رمزية، بدأ يتحول إلى حراك ضاغط يهدد شرعية إسرائيل الاقتصادية والسياسية، خصوصًا مع دخول حكومات ومؤسسات كبيرة على خط الفعل.
وقرار سلوفينيا هو رسالة حاسمة بأن التطبيع الاقتصادي مع الاحتلال لم يعد أمرًا عاديًا أو مقبولًا، بل أصبح تواطؤًا مكشوفًا.
وبينما تتجاهل بعض الحكومات العربية تلك التطورات العالمية، فإن الشارع العربي، وقطاعات واسعة من المجتمع الدولي، باتت تُدرك أن الاقتصاد هو ساحة معركة جديدة، وأن كل مقاطعة لمنتج مصدره الاحتلال قد تعني شريان دعم يُقطع عن آلة الحرب.